الثَّانِي : أَنَّهَا الْقُرْآنُ .
الثَّالِثُ : إذَا أَصَبْت خَيْرًا أَوْ عَمِلْت خَيْرًا فَحَدِّثْ بِهِ الثِّقَةَ مِنْ إخْوَانِك ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا النُّبُوَّةُ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنُ الْهَادِ ، قَالَ : { جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، اقْرَأْ .
قَالَ : وَمَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ } حَتَّى بَلَغَ { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَقَالَ لِخَدِيجَةَ : يَا خَدِيجَةُ ؛ مَا أَرَانِي إلَّا قَدْ عُرِضَ لِي .
فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلًّا وَاَللَّهِ ، مَا كَانَ رَبُّك لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِك ، وَمَا أَتَيْتَ فَاحِشَةً قَطُّ .
قَالَ : فَأَتَتْ خَدِيجَةُ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ ؛ فَقَالَ وَرَقَةُ : إنْ تَكُونِي صَادِقَةً فَزَوْجُك نَبِيٌّ ، وَلَيَلْقِيَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ شِدَّةً ، فَاحْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : يَا مُحَمَّدُ ، مَا أَرَى رَبَّك إلَّا قَدْ قَلَاك ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالضُّحَى } } يَعْنِي السُّورَةَ .
فَهَذَا حَدِيثُهُ بِالنُّبُوَّةِ .
وَأَمَّا حَدِيثُهُ بِالْقُرْآنِ فَتَبْلِيغُهُ إيَّاهُ ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا مِنْ الْوَحْيِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَكَ } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ ، وَاَللَّهُ يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَغْت رِسَالَتَهُ } .
وَأَمَّا
تَحَدُّثُهُ بِعَمَلٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِإِخْلَاصٍ مِنْ النِّيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الثِّقَةِ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ إلَى الرِّيَاءِ ، وَأَسَاءَ الظَّنَّ بِسَامِعِهِ .
وَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ ؛ قَالَ : دَخَلْت عَلَى أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ ، فَقَالَ : لَقَدْ رَزَقَ اللَّهُ الْبَارِحَةَ خَيْرًا ، صَلَّيْت كَذَا وَسَبَّحْت كَذَا .
قَالَ : قَالَ : أَيُّوبُ : فَاحْتَمَلْت ذَلِكَ لِأَبِي رَجَاءَ .
وَمِنْ الْحَدِيثِ بِالنِّعْمَةِ إظْهَارُهَا بِالْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ إذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ } ؛ وَإِظْهَارُهَا بِالْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ .
وَإِظْهَارُهَا بِالْجَدِيدِ وَالْقَوِيِّ مِنْ الثِّيَابِ النَّقِيِّ ، وَلَيْسَ بِالْخَلِقِ الْوَسِخِ ، وَفِي الْمَرْكَبِ اقْتِنَاؤُهُ لِلْجِهَادِ أَوْ لِسَبِيلِ الْحَلَالِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
سُورَةُ الِانْشِرَاحِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَك صَدْرَك } : شَرْحُهُ حَقِيقَةٌ حِسِّيَّةٌ ، وَذَلِكَ حِينَ كَانَ عِنْدَ ظِئْرِهِ ، وَحِينَ أُسْرِيَ بِهِ ، وَشَرَحَهُ مَعْنًى حِينَ جَمَعَ لَهُ التَّوْحِيدَ فِي صَدْرِهِ وَالْقُرْآنَ ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ ، وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَظِيمًا ، وَشَرَحَهُ حِينَ خَلَقَ لَهُ الْقَبُولَ لِكُلِّ مَا أَلْقَى إلَيْهِ وَالْعَمَلَ بِهِ ، وَذَلِكَ هُوَ تَمَامُ الشَّرْحِ وَزَوَالُ التَّرَحِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَرَفَعْنَا لَك ذِكْرَك } : يَعْنِي قَرَنَّاهُ بِذِكْرِنَا فِي التَّوْحِيدِ وَالْأَذَانِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْت فَانْصَبْ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتَّفَقَ الْمُوَحِّدُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ : إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلْأُخْرَى بِلَا فُتُورٍ وَلَا كَسَلٍ ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ إذَا فَرَغْت مِنْ الْفَرَائِضِ فَتَأَهَّبْ لِقِيَامِ اللَّيْلِ .
الثَّانِي : إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لِلدُّعَاءِ .
الثَّالِثُ : إذَا فَرَغْت مِنْ الْجِهَادِ فَاعْبُدْ رَبَّك .
الرَّابِعُ إذَا فَرَغْت مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك فَانْصَبْ لِأَمْرِ آخِرَتِك .
وَمِنْ الْمُبْتَدِعَةِ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَنْصِبْ بِكَسْرِ الصَّادِ وَالْهَمْزِ فِي أَوَّلِهِ ، وَقَالُوا : مَعْنَاهُ أَنْصِبْ الْإِمَامَ الَّذِي يُسْتَخْلَفُ ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ فِي الْقِرَاءَةِ ، بَاطِلٌ فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا .
وَقَرَأَهَا بَعْضُ الْجُهَّالِ فَانْصَبَّ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ مَعْنَاهُ إذَا فَرَغْت مِنْ الْغَزْوِ فَجُدَّ إلَى بَلَدِك .
وَهَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا قِرَاءَةً لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ ، لَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ } .
وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا وَأَسْوَأَهُمْ مَآبًا وَمَبَاءً مَنْ أَخَذَ مَعْنًى صَحِيحًا ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قِرَاءَةً أَوْ حَدِيثًا ، فَيَكُونُ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ ، كَاذِبًا عَلَى رَسُولِهِ ، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا .
أَمَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ عِيدٍ ، فَقَالَ : مَا بِهَذَا أَمَرَ الشَّارِعُ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ { الْحَبَشَ كَانُوا يَلْعَبُونَ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْعِيدِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ } .
{ وَدَخَلَ
أَبُو بَكْرٍ بَيْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ مِنْ جِوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنَّيَانِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ ، فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ } .
وَلَيْسَ يَلْزَمُ الدَّءُوبَ عَلَى الْعَمَلِ ، بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ لِلْخَلْقِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
سُورَةُ التِّينِ [ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } : قِيلَ : هُوَ حَقِيقَةٌ .
وَقِيلَ : عَبَّرَ بِهِ عَنْ دِمَشْقَ أَوْ جَبَلِهَا ، أَوْ مَسْجِدِهَا ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَإِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالتِّينِ لِيُبَيِّنَ فِيهِ [ وَجْهَ ] الْمِنَّةِ الْعُظْمَى ، فَإِنَّهُ جَمِيلُ الْمَنْظَرِ ، طَيِّبُ الْمَخْبَرِ ، نَشِرُ الرَّائِحَةِ ، سَهْل الْجَنْيِ ، عَلَى قَدْرِ الْمُضْغَةِ ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِيهِ : اُنْظُرْ إلَى التِّينِ فِي الْغُصُونِ ضُحًى مُمَزَّقَ الْجِلْدِ مَائِلَ الْعُنُقِ كَأَنَّهُ رَبُّ نِعْمَةٍ سُلِبَتْ فَعَادَ بَعْدَ الْجَدِيدِ فِي الْخَلَقِ أَصْغَرُ مَا فِي النُّهُودِ أَكْبَرُهُ لَكِنْ يُنَادَى عَلَيْهِ فِي الطُّرُقِ وَلِامْتِنَانِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ ، وَتَعْظِيمِ النِّعْمَةِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ مُقْتَاتٌ مُدَّخَرٌ ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ .
وَإِنَّمَا فَرَّ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ التَّصْرِيحِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ تَقِيَّةَ جَوْرِ الْوُلَاةِ فَإِنَّهُمْ يَتَحَامَلُونَ فِي الْأَمْوَالِ الزَّكَائِيَّةِ ، فَيَأْخُذُونَهَا مَغْرَمًا ، حَسْبَمَا أَنْذَرَ بِهِ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ سَبِيلًا إلَى مَالٍ آخَرَ يَتَشَطَّطُونَ فِيهِ .
وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ نِعْمَةِ رَبِّهِ بِأَدَاءِ حَقِّهِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَوْ غَيْرِهَا : لَا زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ .
وَالصَّحِيحُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِمَا .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } : [ يَعْنِي مَكَّةَ لِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْأَمْنِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْعَنْكَبُوتِ وَغَيْرِهِمَا ] ، وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ بِالتِّينِ دِمَشْقَ ، وَبِالزَّيْتُونِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِجَبَلِ دِمَشْقَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْوَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِجَبَلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ ، وَبِمَكَّةَ ؛ لِأَنَّهُ أَثَرُ إبْرَاهِيمَ وَدَارُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } : قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى خَلْقٌ هُوَ أَحْسَنُ مِنْ الْإِنْسَانِ ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ حَيًّا عَالِمًا ، قَادِرًا ، مُرِيدًا ، مُتَكَلِّمًا ، سَمِيعًا ، بَصِيرًا ، مُدَبِّرًا ، حَكِيمًا ، وَهَذِهِ صِفَاتُ الرَّبِّ ، وَعَنْهَا عَبَّرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ، وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } ، يَعْنِي عَلَى صِفَاتِهِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا .
وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ .
وَمِنْ أَيْنَ تَكُونُ لِلرَّجُلِ صِفَةٌ مُشَخَّصَةٌ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ مَعَانِيَ ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْحَدِيثِ فِي مَوْضِعِهِ بِمَا فِيهِ بَيَانُهُ .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْأَزْدِيُّ ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْقَاضِي الْمُحْسِنُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْهَاشِمِيُّ يُحِبُّ زَوْجَهُ حُبًّا شَدِيدًا قَالَ لَهَا يَوْمًا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ لَمْ تَكُونِي أَحْسَنَ مِنْ الْقَمَرِ ، فَنَهَضَتْ وَاحْتَجَبَتْ عَنْهُ ، وَقَالَتْ : طَلَّقَنِي .
وَبَاتَ بِلَيْلَةٍ عَظِيمَةٍ .
وَلَمَّا أَصْبَحَ غَدًا إلَى دَارِ الْمَنْصُورِ ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ [ وَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنْ تَمَّ عَلَيَّ طَلَاقُهَا تَصَلَّفَتْ نَفْسِي غَمًّا ، وَكَانَ الْمَوْتُ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ الْحَيَاةِ ] ؛ وَأَظْهَرَ لِلْمَنْصُورِ جَزَعًا عَظِيمًا ، فَاسْتَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ ، وَاسْتَفْتَاهُمْ ، فَقَالَ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ : قَدْ طَلُقَتْ ، إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُ كَانَ سَاكِتًا ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ : مَالَك لَا تَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، الْإِنْسَانُ أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ ، وَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْهُ [ فَقَالَ
الْمَنْصُورُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى : الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ؛ فَأَقْبِلْ عَلَى زَوْجِك ] ، فَأَرْسَلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ إلَى زَوْجِهِ أَنْ أَطِيعِي زَوْجَك ، وَلَا تَعْصِيهِ ، فَمَا طَلَّقَك .
فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ أَحْسَنُ خَلْقِ اللَّهِ بَاطِنًا وَ [ هُوَ أَحْسَنُ خَلْقِ اللَّهِ ] ظَاهِرًا جَمَالَ هَيْئَةٍ ، وَبَدِيعَ تَرْكِيبٍ : الرَّأْسُ بِمَا فِيهِ ، وَالصَّدْرُ بِمَا جَمَعَهُ ، وَالْبَطْنُ بِمَا حَوَاهُ ، وَالْفَرْجُ وَمَا طَوَاهُ ، وَالْيَدَانِ وَمَا بَطَشَتَاهُ ، وَالرِّجْلَانِ وَمَا احْتَمَلَتَاهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ : إنَّهُ الْعَالَمُ الْأَصْغَرُ ؛ إذْ كُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أُجْمِعَ فِيهِ هَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَكَيْفَ عَلَى التَّفْصِيلِ ، بِتَنَاسُبِ الْمَحَاسِنِ ، فَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِالْعَيْنَيْنِ جَمِيعًا .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ ، وَبِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي رُكِّبَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ اسْتَوْلَى عَلَى جَمَاعَةٍ الْكُفْرَانُ ، وَغَلَبَ عَلَى طَائِفَةٍ الطُّغْيَانُ ، حَتَّى قَالَ : أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى ، وَحِينَ عَلِمَ اللَّهُ هَذَا مِنْ عَبْدِهِ ، وَقَضَاؤُهُ صَادِرٌ مِنْ عِنْدِهِ ، رَدَّهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ وَهِيَ : الْآيَةُ الرَّابِعَةُ بِأَنْ جَعَلَهُ مَمْلُوءًا قَذِرًا ، مَشْحُونًا نَجَاسَةً ، وَأَخْرَجَهَا عَلَى ظَاهِرِهِ إخْرَاجًا مُنْكَرًا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ تَارَةً ، وَعَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ أُخْرَى ، حَتَّى إذَا شَاهَدَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ رَجَعَ إلَى قَدْرِهِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } : قَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } فَلْيَقُلْ : بَلَى ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ الشَّاهِدِينَ } .
وَمِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ : { إذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ أَوْ سَمِعَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى فَلْيَقُلْ : بَلَى } .
وَهَذِهِ أَخْبَارٌ ضَعِيفَةٌ ، أَمَا إنَّ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ فِي الِاعْتِقَادِ لِأَجْلِ مَا يَلْزَمُ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ مِنْ الِانْتِقَادِ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : { صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَتَمَةَ ، فَصَلَّى فِيهَا بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } ، وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ : سَمِعْت الْبَرَاءَ يَقُولُ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ ، فَقَرَأَ فِي إحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } ، فَفَسَّرَ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ قِرَاءَتَهَا مَعَ قَصْرِهَا فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهُوَ السَّفَرُ .
سُورَةُ الْعَلَقِ [ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ } : فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ .
الْقَوْلُ : فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : هَذِهِ السُّورَةُ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَغَيْرُهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّهُ نَزَلَ { يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } ؛ قَالَهُ جَابِرٌ .
الثَّالِثُ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } .
الرَّابِعُ قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ الْهَمْدَانِيُّ : أَوَّلُ مَا نَزَلَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ؛ قَالَتْ : { كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ .
وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، حَتَّى فَجِئَهُ الْوَحْيُ ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } إلَى قَوْلِهِ : { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } .
فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفُؤَادُهُ يَرْجُفُ ؛ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ : زَمِّلُونِي ، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ : أَيْ خَدِيجَةُ ، مَا لِي ؟ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي .
فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : كَلًّا ، أَبْشِرْ .
فَوَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا ، فَوَاَللَّهِ إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ .
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخُو أَبِيهَا ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ ، وَيَكْتُبُ الْإِنْجِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : يَا بْنَ عَمِّ ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك .
قَالَ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِي ، مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى .
فَقَالَ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا ، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُك قَوْمُك .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ، قَالَ وَرَقَةُ : نَعَمْ ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إلَّا أُوذِيَ ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك حَيًّا أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا .
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً ، حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ : فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ : بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْت صَوْتًا ، فَرَفَعْت رَأْسِي ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي قَدْ جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَفَزِعْت مِنْهُ ، فَرَجَعْت فَقُلْت : زَمِّلُونِي ، دَثِّرُونِي ، فَدَثَّرُوهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّك فَكَبِّرْ وَثِيَابَك فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } } .
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ : وَهِيَ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْبُدُهَا
، ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } : فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ مِنْ الْعَلَقِ ، وَأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ عَلَقَةً لَيْسَ بِإِنْسَانٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } : فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْأَقْلَامُ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةٌ : الْقَلَمُ الْأَوَّلُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ ، فَقَالَ لَهُ : اُكْتُبْ ، فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ السَّاعَةِ ، فَهُوَ عِنْدَهُ فِي الذِّكْرِ فَوْقَ عَرْشِهِ } .
الْقَلَمُ الثَّانِي : مَا جَعَلَ اللَّهُ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ يَكْتُبُونَ بِهِ الْمَقَادِيرَ وَالْكَوَائِنَ وَالْأَعْمَالَ ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } خَلَقَ اللَّهُ لَهُمْ الْأَقْلَامَ ، وَعَلَّمَهُمْ الْكِتَابَ بِهَا .
الْقَلَمُ الثَّالِثُ أَقْلَامُ النَّاسِ ، جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَيْدِيهِمْ يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ ، وَيَصِلُونَ بِهَا إلَى مَآرِبِهِمْ ، وَاَللَّهُ أَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا ، وَخَلَقَ لَهُمْ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالنُّطْقَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ قَانُونِ التَّأْوِيلِ ، ثُمَّ رَزَقَهُمْ مَعْرِفَةَ الْعِبَادَةِ بِاللِّسَانِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ [ وَجْهًا ، وَقِيلَ ] حَرْفًا يَضْطَرِبُ بِهَا اللِّسَانُ بَيْنَ الْحَنَكِ وَالْأَسْنَانِ فَيَتَقَطَّعُ الصَّوْتُ تَقْطِيعًا يَثْبُتُ عَنْهُ مُقَطَّعَاتُهُ عَلَى نِظَامٍ مُتَّسِقٍ قُرِنَتْ بِهِ مَعَارِفُ فِي أَفْرَادِهَا وَفِي تَأْلِيفِهَا ، وَأَلْقَى إلَى الْعَبْدِ مَعْرِفَةَ أَدَائِهَا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَعَلَّمَك مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } .
ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ الْيَدَ وَالْقُدْرَةَ ، وَرَزَقَهُ الْعِلْمَ [ وَالرُّتْبَةَ ] ، وَصَوَّرَ لَهُ حُرُوفًا تُعَادِلُ لَهُ الصُّوَرَ الْمَحْسُوسَةَ فِي إظْهَارِ الْمَعْنَى الْمَنْقُولِ فِي النُّطْقِ ، فَيُقَابِلُ هَذَا مَكْتُوبًا ذَلِكَ الْمَلْفُوظَ ، وَيُقَابِلُ الْمَلْفُوظُ مَا تَرَتَّبَ فِي الْقَلْبِ ، وَيَكُونُ الْكُلُّ سَوَاءً ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ ، { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ جَعَلَ اللَّهُ هَذَا كُلَّهُ مُرَتَّبًا لِلْخَلْقِ ، وَنِظَامًا لِلْآدَمِيِّينَ ،
وَيَسَّرَهُ فِيهِمْ ؛ فَكَانَ أَقَلَّ الْخَلْقِ بِهِ مَعْرِفَةً الْعَرَبُ ، وَأَقَلَّ الْعَرَبِ بِهِ مَعْرِفَةً [ الْحِجَازِيُّونَ ، وَأَعْدَمُ الْحِجَازِيِّينَ بِهِ مَعْرِفَةً ] الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ صَرَفَهُ ] عَنْ عِلْمِهِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَثْبَتَ لِمُعْجِزَتِهِ ، وَأَقْوَى فِي حُجَّتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ تَقْطِيعٌ فِي الْأَصْوَاتِ عَلَى نِظَامٍ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي النَّفْسِ ، وَلَهُمْ صُورَةٌ فِي الْخَطِّ تُعَبِّرُ عَمَّا يَجْرِي بِهِ اللِّسَانُ ، وَفِي اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى رَبِّكُمْ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْحَاكِمِ ؛ وَأُمُّ اللُّغَاتِ وَأَشْرَفُهَا الْعَرَبِيَّةُ ، لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ إيجَازِ اللَّفْظِ ، وَبُلُوغِ الْمَعْنَى ، وَتَصْرِيفِ الْأَفْعَالِ وَفَاعِلِيهَا وَمَفْعُولِيّهَا ، كُلُّهَا عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ ، الْحُرُوفُ وَاحِدَةٌ ، وَالْأَبْنِيَةُ فِي التَّرْتِيبِ مُخْتَلِفَةٌ ، وَهَذِهِ قُدْرَةٌ وَسِيعَةٌ وَآيَةٌ بَدِيعَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لِكُلِّ أُمَّةٍ حُرُوفٌ مُصَوَّرَةٌ بِالْقَلَمِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْكَلِمِ ، عَلَى حَسْبِ مَرَاتِبِ لُغَاتِهِمْ ، مِنْ عِبْرَانِيٍّ ، وَيُونَانِيٍّ ، وَفَارِسِيٍّ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ اللُّغَاتِ أَوْ عَرَبِيٍّ ؛ وَهُوَ أَشْرَفُهَا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا عَلَّمَ اللَّهُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَسْبَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ : { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا } ؛ فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إلَّا وَعَلَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آدَمَ اسْمَهُ بِكُلِّ لُغَةٍ ، وَذَكَرَهُ آدَم لِلْمَلَائِكَةِ كَمَا عُلِّمَهُ ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَ فَضْلُهُ ، وَعَظُمَ قَدْرُهُ ، وَتَبَيَّنَ عِلْمُهُ ، وَثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ ، وَقَامَتْ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، وَحُجَّتُهُ ، وَامْتَثَلَتْ الْمَلَائِكَةُ لَمَّا رَأَتْ مِنْ شَرَفِ الْحَالِ ، وَرَأَتْ مِنْ جَلَالِ الْقُدْرَةِ ، وَسَمِعَتْ مِنْ عَظِيمِ الْأَمْرِ ، ثُمَّ تَوَارَثَتْ ذَلِكَ ذُرِّيَّتُهُ خَلَفًا بَعْدَ سَلَفٍ ، وَتَنَاقَلُوهُ قَوْمًا عَنْ قَوْمٍ ، تَحْفَظُهُ أُمَّةٌ
وَتُضَيِّعُهُ أُخْرَى ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَضْبِطُ عَلَى الْخَلْقِ بِالْوَحْيِ مِنْهُ مَا شَاءَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ الْأُمَمِ عَلَى مَقَادِيرِهَا وَمَجْرَى حُكْمِهِ فِيهَا ، حَتَّى جَاءَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ جِيرَتِهِ جُرْهُمًا ، وَزَوَّجُوهُ فِيهِمْ ، وَاسْتَقَرَّ بِالْحَرَمِ ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَعَلَّمَهُ الْعَرَبِيَّةَ غَضَّةً طَرِيَّةً ، وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ صَحِيحَةً فَصَيْحَةً سَوِيَّةً ، وَاسْتَطْرَبَ عَلَى الْأَعْقَابِ فِي الْأَحْقَابِ إلَى أَنْ وَصَلَنَا إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرُفَ وَشَرُفَتْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَأُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلَامِ ، وَظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ وَحُكْمُهُ ، وَأَشْرَقَ عَلَى الْآفَاقِ فَهْمُهُ وَعِلْمُهُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَالَ أَبُو الْمُنْذِرِ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ : أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَطَّ نَفَرٌ مِنْ طَيِّئٍ ، وَهُمْ صُوَارُ بْنُ مُرَّةَ ؛ وَيُقَالُ مِرَارُ بْنُ مُرَّةَ ، وَأَسْلَمُ بْنُ سُدْرَةَ ، وَعَامِرُ بْنُ خُدْرَةَ فَسَارُوا إلَى مَكَّةَ ، فَتَعَلَّمَهُ مِنْهُمْ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ ، وَهِشَامُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، ثُمَّ أَتَوْا الْأَنْبَارَ فَتَعَلَّمَهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ ، ثُمَّ أَتَوْا الْحِيرَةَ ، فَعَلَّمُوهُ جَمَاعَةً ، مِنْهُمْ : سُفْيَانُ بْنُ مُجَاشِعِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَارِمٍ ، وَوَلَدُهُ ، يُسَمَّوْنَ بِالْكُوفَةِ بَنِي الْكَاتِبِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : الْكَلْبِيُّ مُتَّهَمٌ لَا يُؤَثِّرُ نَقْلُهُ ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِهِ مِنْ طَرِيقٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ الْخَطَّ بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَنَقَلَهُ الْكَافَّةُ فَالْكَافَّةُ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْعَرَبِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ أَوَّلَ مَنْ نَقَلَ الْخَطَّ إلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فُلَانٌ .
وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ : أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْخَطَّ فُلَانٌ ، فَالْخَطُّ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَنْقُولٌ ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ طَيِّئٍ بِمَا لَا يُحْصَى مِنْ السِّنِينَ عَدَدًا ، فَأَمَّا وَضْعُهُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَالسُّرْيَانِيَّ وَالْمُسْنَدَ ، وَهُوَ كِتَابُ حِمْيَرَ ، كَتَبَهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ وَوَضَعَهَا فِي الطِّينِ وَطَبَخَهَا فَلَمَّا أَصَابَ الْأَرْضَ الْغَرَقُ ، وَانْجَلَى ، وَخَلَقَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ خَلْقٍ وَجَدَتْ كُلُّ أُمَّةٍ كِتَابَهَا ، فَأَصَابَ إسْمَاعِيلُ كِتَابَ الْعَرَبِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ إسْمَاعِيلُ عَلَى لَفْظِهِ وَمَنْطِقِهِ كِتَابًا وَاحِدًا ، مِثْلَ الْأُصُولِ فَتَعَرَّفَهُ وَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَرُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ : أَوَّلُ مَا وَضَعَ أَبْجَدِ هَوَّزْ حُطِّي كَلَمُنْ سعفص قَرَشَتْ ، وَأُسْنِدَ إلَى
عَمْرٍو .
وَهَذِهِ كُلُّهَا رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ خَوْضٌ فِيمَا لَا يُعْتَمَدُ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ حُكْمٌ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ ، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ لِيَعْلَمَ الطَّالِبُ مَا جَرَى ، وَيَفْهَمَ مِنْ ذَلِكَ الْأَوْلَى بِالدِّينِ وَالْأَحْرَى .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إسْمَاعِيلَ إنَّمَا تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْ جُرْهُمٍ ، حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ لِقِصَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَذَكَرَهُ إلَى قَوْلِهِ : { فَكَانَتْ كَذَلِكَ هَاجَرُ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ مُقْبِلِينَ مِنْ طُرُقِ كَدَاءٍ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ ، أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمٍ ، نَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَلَيْهِمَا فَقَالُوا : إنَّ هَذَا الطَّائِرَ يَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا .
قَالَ وَأُمُّ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْمَاءِ ، فَقَالُوا : أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَك ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، و لَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ .
قَالُوا : نَعَمْ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَتْ ذَلِكَ أُمُّ إسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إلَى أَهْلِيهِمْ ، فَنَزَلُوا مَعَهُمْ ، حَتَّى إذَا كَانُوا بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ ، وَشَبَّ الْغُلَامُ ، وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ } وَسَاقَ الْحَدِيثَ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَبُو جَهْلٍ : لَئِنْ رَأَيْت مُحَمَّدًا لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ .
فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا } خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ، فَجَاءَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ : أَلَمْ أَنْهَك عَنْ هَذَا ؟ أَلَمْ أَنْهَك عَنْ هَذَا ؟ فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَبَرَهُ ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ : إنَّك لَتَعْلَمُ مَا بِهَا نَادٍ أَكْثَرَ مِنِّي ، فَنَزَلَتْ : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَاَللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ اللَّهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَعَلَّقَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا : لَوْ رَأَى الْمَاءَ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ [ مُتَيَمِّمًا ] ؛ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ : يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَادَى عَلَيْهَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ يَدْخُلُ فِي الذَّمِّ فِي قَوْلِهِ : { أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى } .
وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ هَلْ يَكُونُ فِي صَلَاةٍ إذَا رَأَى الْمَاءَ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الذَّمُّ إلَّا إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ بَاقِيَةً ، وَنَحْنُ قُلْنَا لَهُمْ : إذَا أَمَرْتُمُوهُ بِقَطْعِهَا بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ فَقَدْ دَخَلْتُمْ فِي الْعُمُومِ الْمَذْمُومِ .
قَالُوا : لَا نَدْخُلُ ؛ لِأَنَّا نَرْفَعُ الطَّهَارَةَ بِالتُّرَابِ بِمُعَارِضِهَا وَهُوَ رُؤْيَةُ الْمَاءِ .
قُلْنَا : لَا تَكُونُ رُؤْيَةُ الْمَاءِ مُعَارِضَةً لِلطَّهَارَةِ بِالتُّرَابِ ، إلَّا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مُقَارِنَةً لِلرُّؤْيَةِ ، وَلَا قُدْرَةَ مَعَ الصَّلَاةِ ، وَلَا تَبْطُلُ الطَّهَارَةُ إلَّا بِرُؤْيَةٍ مَعَ قُدْرَةٍ ، فَمَانِعٍ فَبَقِيَتْ الصَّلَاةُ بِحَالِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { وَاسْجُدْ } فِيهَا طَرِيقَةُ الْقُرْبَةِ ، فَهُوَ يَتَأَكَّدُ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، لَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُجُودَ الصَّلَاةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سُجُودُ الصَّلَاةِ ، لِقَوْلِهِ : { أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى } إلَى قَوْلِهِ : ( كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) ، لَوْلَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ { أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : سَجَدْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي : { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } وَفِي : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ } سَجْدَتَيْنِ } ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ سُجُودُ التِّلَاوَةِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ : عَزَائِمُ السُّجُودِ أَرْبَعٌ : { الم تَنْزِيلُ } و { حم تَنْزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } و { وَالنَّجْمِ } و { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك } .
وَهَذَا إنْ صَحَّ يَلْزَمُهُ عَلَيْهِ السُّجُودُ الثَّانِي مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَرِنًا بِالرُّكُوعِ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ مَعْنَاهُ ارْكَعُوا [ فِي مَوْضِعِ الرُّكُوعِ ] ، وَاسْجُدُوا فِي مَوْضِعِ السُّجُودِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { وَاقْتَرِبْ } : الْمَعْنَى اكْتَسِبْ الْقُرْبَ مِنْ رَبِّك فِي السُّجُودِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي سُجُودِهِ ؛ لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالذِّلَّةِ لِلَّهِ ، وَلِلَّهِ غَايَةُ الْعِزَّةِ ، وَلَهُ الْعِزَّةُ الَّتِي لَا مِقْدَارَ لَهَا ، فَلَمَّا بَعُدْت مِنْ صِفَتِهِ قَرُبْت مِنْ جَنَّتِهِ ، وَدَنَوْت مِنْ جِوَارِهِ فِي دَارِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ ، وَأَمَّا
السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ فِي الدُّعَاءِ ؛ فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ } .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ ، وَمُطَرِّفٌ : وَكَانَ مَالِكٌ يَسْجُدُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِخَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ ، وَابْنُ وَهْبٍ يَرَاهَا مِنْ الْعَزَائِمِ .
سُورَةُ الْقَدْرِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } : فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَقِسْمِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَمَدِ الْأَقْصَى مَعْنَى النُّزُولِ فِي الْقُرْآنِ ، وَأَنَّ الْمَلِكَ عَلِمَهُ فِي الْعُلُوِّ وَأَنْهَاهُ فِي السُّفْلِ ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالنُّزُولِ مَجَازًا فِي الْمَعْنَى عَنْ الْحِسِّ إلَى الْعَقْلِ ؛ إذْ الْمَحْسُوسُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَالْمَعْقُولُ هُوَ الرُّتَبُ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَمْيِيزِ الْمُنَزَّلِ ، وَهُوَ الْقُرْآنُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ لِلْمُخَاطَبِينَ بِهِ الْعِلْمُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } وَمِنْهُ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ : { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ { فِي لَيْلَةِ } قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ لَيْلًا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي رَمَضَانَ ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } ، وَأَنْزَلَهُ مِنْ الشَّهْرِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ : { لَيْلَةِ الْقَدْرِ } قِيلَ : لَيْلَةُ الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ .
وَقِيلَ : لَيْلَةُ التَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ .
وَهُوَ أَقْرَبُ لِقَوْلِهِ : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } وَيَدْخُلُ فِيهِ الشَّرَفُ وَالرِّفْعَةُ .
وَمِنْ شَرَفِهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ فِيهَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً ، وَمِنْ شَرَفِهَا بَرَكَتُهَا وَسَلَامَتُهَا الَّتِي يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُهَا .
وَمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَبَّرَ الْحَوَادِثَ وَالْكَوَائِنَ قَبْلَ خَلْقِهَا بِغَيْرِ مُدَّةٍ ، وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ ، وَعَلِمَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ حُدُوثِهَا بِغَيْرِ أَمَدٍ ؛ وَمِنْ جَهَالَةِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ السَّفَرَةَ أَلْقَتْهُ إلَى جِبْرِيلَ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَلْقَاهُ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي عِشْرِينَ سَنَةً .
وَهَذَا بَاطِلٌ لَيْسَ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَبَيْنَ [ اللَّهِ وَاسِطَةٌ .
وَلَا بَيْنَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَاسِطَةٌ ] .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَيُحْدِثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي رَمَضَانَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ الْأَرْزَاقِ وَالْمَصَائِبِ ، وَمَا يُقَسَّمُ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ ، وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ ، وَالْمَطَرِ وَالرِّزْقِ ، حَتَّى يَكْتُبَ فُلَانٌ يَحُجُّ فِي الْعَامِ ، وَيَكْتُبَ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ ، وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ، فَقَدْ فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ ، وَنَسَخَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مَنْ يَمُوتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إلَى مِثْلِهَا ، فَتَجِدُ الرَّجُلَ يَنْكِحُ النِّسَاءَ ، وَيَغْرِسُ الْغُرُوسَ ، وَاسْمُهُ فِي الْأَمْوَاتِ مَكْتُوبٌ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } : فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ هِبَتِهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ فَضْلٌ مِنْ رَبِّك .
الثَّانِي أَنَّهُ { ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا أَرْبَعَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَقَالَ : عَبَدُوا اللَّهَ ثَمَانِينَ عَامًا لَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، فَذَكَرَ أَيُّوبَ وَزَكَرِيَّا ، وَحِزْقِيلَ بْنَ الْعَجُوزِ ، وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ ، فَعَجِبَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، عَجِبَتْ أُمَّتُك مِنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوا اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْك خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَرَأَ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } وَهَذَا أَفْضَلُ مِمَّا عَجِبْت أَنْتَ وَأُمَّتُك مِنْهُ .
قَالَ : فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
الثَّالِثُ : قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ عَنْهُ : سَمِعْت مَنْ أَثِقُ بِهِ يَقُولُ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَعْمَارَ الْأُمَمِ قَبْلَهُ ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَلَّا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمُرِ ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، وَجَعَلَهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } .
قَالَ الْقَاضِي : وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ ، وَلَقَدْ أُعْطِيت أُمَّةُ مُحَمَّدٍ مِنْ الْفَضْلِ مَا لَمْ تُعْطَهُ أُمّ