وَحَدَّثَهُمْ بِأَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ ، وَيَقُولُ : حَدِيثِي هَذَا أَحْسَنُ مِنْ قُرْآنِ مُحَمَّدٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مُغَنِّيَةً ، فَشُغِلَ النَّاسُ بِلَهْوِهَا عَنْ اسْتِمَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ بِحَالٍ ، لِعَدَمِ ثِقَةِ نَاقِلِيهَا إلَى مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْأَعْيَانِ فِيهَا .
وَأَصَحُّ مَا فِيهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْبَاطِلُ .
فَأَمَّا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ : إنَّهُ الطَّبْلُ فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ : طَبْلُ حَرْبٍ ، وَطَبْلُ لَهْوٍ ، فَأَمَّا طَبْلُ الْحَرْبِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ النُّفُوسَ ، وَيُرْهِبُ عَلَى الْعَدُوِّ .
وَأَمَّا طَبْلُ اللَّهْوِ فَهُوَ كَالدُّفِّ .
وَكَذَلِكَ آلَاتُ اللَّهْوِ الْمُشْهِرَةُ لِلنِّكَاحِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ ، لِمَا يَحْسُنُ مِنْ الْكَلَامِ ، وَيَسْلَمُ مِنْ الرَّفَثِ .
وَأَمَّا سَمَاعُ الْقَيْنَاتِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْمَعَ غِنَاءَ جَارِيَتِهِ ، إذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ حَرَامًا ، لَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا ، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْ التَّلَذُّذِ بِصَوْتِهَا .
وَلَمْ يَجُزْ الدُّفُّ فِي الْعُرْسِ لِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ يُشْهِرُهُ ، فَكُلُّ مَا أَشْهَرَهُ جَازَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الزَّمْرِ فِي الْعُرْسِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ : { أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ } ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ انْكِشَافُ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ وَلَا هَتْكُ الْأَسْتَارِ ، وَلَا سَمَاعُ الرَّفَثِ ، فَإِذَا خَرَجَ ذَلِكَ إلَى مَا لَا يَجُوزُ مُنِعَ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَاجْتُنِبَ مِنْ أَصْلِهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اُشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ذِكْرِ لُقْمَانَ : وَفِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : كَانَ لُقْمَانُ أَسْوَدَ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ ، حَكِيمًا ، ذَا مَشَافِرَ ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا .
الثَّانِي : قَالَ قَتَادَةُ : خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ ، فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ ، فَقَذَفَ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ ، فَأَصْبَحَ يَنْطِقُ بِهَا ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إلَيَّ النُّبُوَّةَ عَزْمَةً لَرَجَوْت الْفَوْزَ بِهَا ، وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي ؛ فَخِفْت أَنْ أَضْعُفَ عَنْ النُّبُوَّةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ مِنْ النُّوبَةِ قَصِيرًا أَفْطَسَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ كَانَ حَبَشِيًّا .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ كَانَ خَيَّاطًا .
السَّادِسُ : أَنَّهُ كَانَ رَاعِيًا ، فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ : أَلَسْت عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ الَّذِي كُنْت تَرْعَى بِالْأَمْسِ ؟ قَالَ : بَلَى .
قَالَ : فَمَا بَلَغَ بِك مَا أَرَى ؟ قَالَ : قَدَرُ اللَّهِ ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي .
السَّابِعُ : أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا نَجَّارًا قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ : اذْبَحْ شَاةً ، وَأْتِنِي بِأَطْيَبِهَا بِضْعَتَيْنِ فَأَتَاهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ .
ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ ، وَقَالَ لَهُ : أَلْقِ أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ ، فَأَلْقَى اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ ، فَقَالَ : أَمَرْتُك أَنْ تَأْتِيَنِي بِأَطْيَبِهَا بِضْعَتَيْنِ فَأَتَيْتنِي بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ ، وَأَمَرْتُك أَنْ تُلْقِي أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ ، فَأَلْقَيْت اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ ، فَقَالَ : لَيْسَ شَيْءٌ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إذَا طَابَا ، وَلَا شَيْءَ أَخْبَثُ مِنْهَا إذَا خَبُثَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى عُلَمَاؤُنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ ؛ إنَّ النَّاسَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُوعَدُونَ ، وَهُمْ إلَى الْآخِرَةِ سِرَاعًا يَذْهَبُونَ ، وَإِنَّك قَدْ اسْتَدْبَرْت الدُّنْيَا مُنْذُ كُنْت ، وَاسْتَقْبَلْت الْآخِرَةَ ، وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إلَيْهَا أَقْرَبُ إلَيْك مِنْ دَارٍ تَخْرُجُ عَنْهَا .
وَقَالَ لُقْمَانُ ، يَا بُنَيَّ ؛ لَيْسَ غِنًى كَصِحَّةٍ ، وَلَا نِعْمَةٌ كَطِيبِ نَفْسٍ .
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ لَا تُجَالِسْ الْفُجَّارَ ، وَلَا تُمَاشِهِمْ ، اتَّقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مِنْ السَّمَاءِ ، فَيُصِيبَك مَعَهُمْ .
وَقَالَ : يَا بُنَيَّ ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَمَاشِهِمْ ، عَسَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فَتُصِيبَك مَعَهُمْ .
وَقَالَ : يَا بُنَيَّ ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْك ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ الْمَيِّتَةَ بِالْعِلْمِ ، كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّهُ كَانَ لُقْمَانُ بْنَ عَادٍ الْأَكْبَرَ ، وَكَانَ لُقْمَانُ الْأَصْغَرَ ، وَلَيْسَ بِلُقْمَانَ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ .
وَكَانَ لُقْمَانُ هَذَا الَّذِي تَذْكُرُهُ الْعَرَبُ حَكِيمًا .
وَفِي أَخْبَارِهَا أَنَّ أُخْتَ لُقْمَانَ كَانَتْ امْرَأَةً مُحَمَّقَةً ، وَكَانَ لُقْمَانُ حَكِيمًا نَجِيًّا ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ لِامْرَأَتِهِ : هَذِهِ لَيْلَةُ طُهْرِي فَهَبِي لِي لَيْلَتَك ، طَمَعًا فِي أَنْ تَعْلَقَ مِنْ أَخِيهَا بِنَجِيبٍ ، فَفَعَلَتْ ، فَحَمَلَتْ مِنْ أَخِيهَا ، فَوَلَدَتْ لُقَيْمَ بْنَ لُقْمَانَ ، وَفِيهِ يَقُولُ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ : لُقَيْمُ بْنُ لُقْمَانَ مِنْ أُخْتِهِ فَكَانَ ابْنَ أُخْتٍ لَهَا وَابْنَا لَيَالِي حُمْقٌ فَاسْتَحْصَنَتْ عَلَيْهِ فَغُرَّ بِهَا مُظْلِمًا فَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ مُحْكِمٌ فَجَاءَتْ بِهِ رَجُلًا مُحْكَمًا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : ذَكَرَ مَالِكٌ كَلَامًا كَثِيرًا مِنْ الْحِكْمَةِ عَنْ لُقْمَانَ ، وَأَدْخَلَ مِنْ حِكْمَتِهِ فَصْلًا فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنْ مُوَطَّئِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ ، وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ فَصْلًا يَعْضُدُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا أَيْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك } يَعْنِي لَا تُمِلْهُ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا ، يُرِيدُ أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا ، مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا ، وَإِذَا حَدَّثَك أَحَدُهُمْ فَأَصْغِ إلَيْهِ ، حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَ يُرِيدُ : فَتَقَوَّمْ أَنْتَ ، أَمْرٌ ، ثُمَّ كُسِرَتْ لِلْقَافِيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا } قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْهِ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ ، وَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَعَنْهُ ، صَحِيحًا : { الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَعَنْهُ مِثْلُهُ : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا } .
وَعَنْهُ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْإِزَارِ ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِعِلْمٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ ، وَمَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ } .
قَالَ الْقَاضِي : رُوِيَ أَنَّ الْمُخْتَالَ هُوَ قَارُونُ ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ مِنْ الْخَسْفِ .
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ ، وَفِي صَحِيحِ الْأَخْبَارِ { أَنَّهُ سَيُخْسَفُ بِجَيْشٍ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْصِدُ الْبَيْتَ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، أَمَا إنَّهُ يَتَبَخْتَرُ فَلَمْ تُخْسَفْ بِهِ الْأَرْضُ حَقِيقَةً خُسِفَ بِهِ فِي الْعَمَلِ مَجَازًا ، فَلَمْ يَرْقَ لَهُ عَمَلٌ إلَى السَّمَاءِ ، وَهُوَ أَشَدُّ الْخَسْفِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَصْدُ فِي الْمَشْيِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ السُّرْعَةَ ، وَيَحْتَمِلُ التُّؤَدَةَ ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي مَوْضِعِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَشْيَ بِقَصْدٍ ، لَا يَكُونُ عَادَةً ، بَلْ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ النِّيَّةِ ، وَلَا يَسْتَرْسِلُ اسْتِرْسَالَ الْبَهِيمَةِ ؛ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ مُرَادٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِك } يَعْنِي لَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَ الصَّوْتِ ، وَخُذْ مِنْهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْحَاجَةِ تَكَلُّفٌ يُؤْذِي .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِمُؤَذِّنٍ تَكَلَّفَ رَفْعَ الْأَذَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ : لَقَدْ خَشِيت أَنْ تَنْشَقَّ مُرَيْطَاؤُك .
وَالْمُؤَذِّنُ هُوَ أَبُو مَحْذُورَةَ سَمُرَةَ بْنُ مِعْيَرٍ .
وَالْمُرَيْطَاءُ : مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الْعَانَةِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْمَصِيرُ } .
يَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
سُورَةُ السَّجْدَةِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمَضَاجِعُ جَمْعُ مَضْجَعٍ ، وَهِيَ مَوَاضِعُ النَّوْمِ .
وَيُحْتَمَلُ وَقْتُ الِاضْطِجَاعِ ، وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ .
وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى ، وَذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ السَّهَرِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إلَى أَيِّ طَاعَةِ اللَّهِ تَتَجَافَى ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : ذِكْرُ اللَّهِ .
وَالْآخَرُ الصَّلَاةُ .
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا عَامٌّ ، وَالْآخَرَ خَاصٌّ .
فَإِنْ قُلْنَا : إنَّ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ ، فَأَيُّ صَلَاةٍ هِيَ ؟ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا النَّفَلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ؛ قَالَ قَتَادَةُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْعَتَمَةُ ؛ قَالَهُ أَنَسٌ وَعَطَاءٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ ؛ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قِيَامُ اللَّيْلِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : هُوَ قِيَامُ اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ ، وَذَلِكَ أَثْقَلُهُ عَلَى النَّاسِ ، وَمَتَى كَانَ النَّوْمُ حِينَئِذٍ أَحَبَّ فَالصَّلَاةُ حِينَئِذٍ أَحَبُّ وَأَوْلَى .
وَالْقَوْلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مَضَى ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الزُّمَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا مَنْ طَالَعْت كَلَامَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ ، وَذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ خَاصَّةً مُنْتَزِعًا بِهَا لِجَوَازِ الْوَكَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ : { الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } وَهَذَا أَخْذٌ مِنْ لَفْظِهِ ، لَا مِنْ مَعْنَاهُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ فَاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ إنَّمَا يَفْعَلُ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ ، لَا بِمَا جَعَلَ إلَيْهِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ .
وَلَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَقُلْنَا فِي قَوْلِهِ : { قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا } أَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَوَكَالَةٌ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ ، وَلَقُلْنَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } إنَّهُ وَكَالَةٌ فِي أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ الرِّزْقَ لِكُلِّ دَابَّةٍ ، وَخَصَّ الْأَغْنِيَاءَ بِالْأَغْذِيَةِ ، وَأَوْعَزَ إلَيْهِمْ بِأَنَّ رِزْقَ الْفُقَرَاءِ عِنْدَهُمْ ، وَأَمَرَهُمْ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِمْ ، مُقَدَّرًا مَعْلُومًا فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ ، وَدَبَّرَهُ بِعِلْمِهِ ، وَأَنْفَذَهُ مِنْ حُكْمِهِ ، وَقَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَلَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِالْأَلْفَاظِ ، إلَّا أَنْ تُرَدَّ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ فِي مَقَاصِدِهَا الْمَطْلُوبَةِ ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِي غَيْرِ مَقْصِدِهَا لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهَا مَقَاصِدُهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ مَعْلُومُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } .
وَلَا يُقَالُ : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُبَايَعَةِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَيْنِ مُخْتَلِفَانِ .
وَهَذَا غَرَضٌ شَبَّ طَوْقُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ ، فَإِذَا أَرَادُوا لُبْسَهُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا جَوْبَهُ ، وَلَا وُجِدَ امْرُؤٌ مِنْهُمْ جَيْبَهُ .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ
الْآيَةِ فِي الْمُشْكَلَيْنِ ، وَأَحْسَنُ مَا قَيَّدْنَا فِيهَا عَنْ الْإسْفَرايِينِيّ ، مِنْ طَرِيقِ الشَّهِيدِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ ، الْفَاعِلُ حَقِيقَةً لِكُلِّ فِعْلٍ ، فِي أَيِّ مَحَلٍّ كَانَ ، وَمَتَى تَرَتَّبَ الْمُحَالُ ، وَتَنَاسَقَتْ الْأَفْعَالُ فَالْكُلُّ إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ مُحَالُونَ ، وَمَنْ فَعَلَهُ مَحْسُوبٌ ، وَفِي كِتَابِهِ مَكْتُوبٌ ؛ وَقَدْ خَلَقَ مَلَكَ الْمَوْتِ ، وَخَلَقَ عَلَى يَدَيْهِ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ ، وَاسْتِلَالَهَا مِنْ الْأَجْسَامِ ، وَإِخْرَاجَهَا مِنْهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَخَلَقَ جُنْدًا يَكُونُونَ مَعَهُ ، يَعْمَلُونَ عَمَلَهُ بِأَمْرِهِ مَثْنَى وَفُرَادَى .
وَالْبَارِي تَعَالَى خَالِقُ الْكُلِّ ، فَأَخْبَرَ عَنْ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ ، فَقَالَ : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } ، إخْبَارًا عَنْ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ .
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } خَبَرًا عَنْ الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ الَّذِي نِيطَ بِهِ ، وَخَلَقَ فِعْلَهُ فِيهِ .
وَقَالَ : { وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ } ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ خَبَرًا عَنْ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تُبَاشِرُ فِيهَا ذَلِكَ .
فَالْأُولَى حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ إلَهِيَّةٌ ، وَالثَّانِيَةُ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِحُكْمِ الْمُبَاشَرَةِ .
وَقَالَ : مَلَكُ الْمَوْتِ إنْ بَاشَرَ مِثْلَهَا وَإِنْ أُمِرَ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ : حَدَّ الْأَمِيرُ الزَّانِيَ وَعَاقَبَ الْجَانِيَ .
وَهَذِهِ نِهَايَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَا إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّسَوُّرِ عَلَى الْمَعَانِي ، وَدَفْعِ الْجَهْلِ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمَقَاصِدِ فِي ذَلِكَ ، فَيُقَالُ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَأْخُذُ الْحَقَّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ قَسْرًا دُونَ
أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ أَوْ يَرْتَبِطَ بِهِ رِضًا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ .
وَهُوَ التَّحْقِيقُ الْحَاضِرُ الْآنَ ، وَتَمَامُهُ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ .
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِيمَنْ نَزَلَتْ ؟ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمُؤْمِنِ ، وَفِي عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الْكَافِرِ ، فَاخَرَ عُقْبَةُ عَلِيًّا ، فَقَالَ : أَنَا أَبْسَطُ مِنْك لِسَانًا ، وَأَحَدُّ سِنَانًا ، وَأَمْلَأُ فِي الْكَتِيبَةِ مِنْك حَشْوًا .
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : لَيْسَ كَمَا قُلْت يَا فَاسِقُ .
قَالَ قَتَادَةُ : وَاَللَّهِ مَا اسْتَوَيَا فِي الدُّنْيَا ، وَلَا عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا الْقَوْلِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ ، وَبِهَذَا مُنِعَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا ؛ إذْ مِنْ شُرُوطِ وُجُودِ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ ، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَتْلِهِ الْمُسْلِمَ بِالذِّمِّيِّ .
وَقَالَ : أَرَادَ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ هَاهُنَا فِي الْآخِرَةِ فِي الثَّوَابِ ، وَفِي الدُّنْيَا فِي الْعَدَالَةِ ، وَنَحْنُ حَمَلْنَاهُ عَلَى عُمُومِهِ ؛ وَهُوَ أَصَحُّ ؛ إذْ لَا دَلِيلَ يَخُصُّهُ حَسْبَمَا قَرَرْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
سُورَةُ الْأَحْزَابِ فِيهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَيْسَ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ ابْنَك .
الثَّانِي : قَالَ قَتَادَةُ : كَانَ رَجُلٌ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا إلَّا وَعَاهُ ، فَقَالَ النَّاسُ : مَا يَعِي هَذَا إلَّا لِأَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَلْبَيْنِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ فَكَانَ مَا قَالَ ] .
الثَّالِثُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ قَالَ : إنَّ فِي جَوْفِي قَلْبَيْنِ ، أَعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِ مُحَمَّدٍ .
الرَّابِعُ : قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَرَأَيْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } مَا عَنَى بِذَلِكَ ؟ قَالَ : قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَرَ خَطْرَةً ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ : أَلَا تَرَوْنَ لَهُ قَلْبَيْنِ : قَلْبًا مَعَكُمْ ، وَقَلْبًا مَعَهُمْ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ قَلْبَيْنِ } الْقَلْبُ : بِضْعَةٌ صَغِيرَةُ الْجُرْمِ عَلَى هَيْئَةِ الصَّنَوْبَرَةِ ، خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآدَمِيِّ وَجَعَلَهَا مَحَلًّا لِلْعِلْمِ ، وَالرُّوحِ أَيْضًا ، فِي قَوْلٍ ، يُحْصِي بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الْعُلُومِ مَا لَا يَسَعُ فِي أَسْفَارٍ ، يَكْتُبُهُ اللَّهُ لَهُ فِيهِ بِالْخَطِّ الْإِلَهِيِّ ، وَيَضْبُطُهُ فِيهِ بِالْحِفْظِ الرَّبَّانِيِّ حَتَّى يُحْصِيَهُ وَلَا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا .
وَهُوَ بَيْنَ لَمَّتَيْنِ : لَمَّةٌ مِنْ الْمَلَكِ ، وَلَمَّةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ .
وَهُوَ مَحَلُّ الْخَطِرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ ، وَمَكَانُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ ، وَمَوْضِعُ الْإِصْرَارِ وَالْإِنَابَةِ ، وَمَجْرَى الِانْزِعَاجِ وَالطُّمَأْنِينَةِ .
وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَلْبِ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالُ ، وَالْإِنَابَةُ وَالْإِصْرَارُ ، وَهَذَا نَفْيٌ لِكُلِّ مَا تَوَهَّمَهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِيقَةٍ أَوْ مَجَازٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ أُمًّا بِقَوْلِ الرَّجُلِ : هِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
وَلَكِنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ تَحْرِيمَ الْقَوْلِ يَمْتَدُّ إلَى غَايَةٍ ، وَهِيَ الْكَفَّارَةُ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } كَانَ الرَّجُلُ يَدْعُو الرَّجُلَ ابْنًا إذَا رَبَّيْهِ ، كَأَنَّهُ تَبَنَّاهُ أَيْ يُقِيمُهُ مَقَامَ الِابْنِ ؛ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا بِهِ إلَى أَنْ قَالُوا : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ : وَإِلَى أَنْ يَقُولُوا : زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، فَمَسَخَ اللَّهُ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ ، وَبَتَّ حَبْلَهَا ، وَقَطَعَ وَصْلَهَا بِمَا أَخْبَرَ مِنْ إبْطَالِ ذَلِكَ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، حَتَّى نَزَلَتْ : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } .
وَكَانَ مِنْ قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ جَبَلَةُ فِي الْحَيِّ ، فَقَالُوا : أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ زَيْدٌ ؟ فَقَالَ : زَيْدٌ أَكْبَرُ مِنِّي ، وَأَنَا وُلِدْت قَبْلَهُ ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ : كَانَتْ أُمُّنَا امْرَأَةً مِنْ طَيِّئٍ ، فَمَاتَ أَبُونَا ، وَبَقِينَا فِي حِجْرِ جَدِّي ، فَجَاءَ عَمَّايَ ، فَقَالَا لِجَدِّي : نَحْنُ أَحَقُّ بِابْنِ أَخِينَا مِنْك .
فَقَالَ : مَا عِنْدَنَا خَيْرٌ لَهُمَا ، فَأَبَيَا .
فَقَالَ : خُذَا جَبَلَةَ وَدَعَا زَيْدًا .
فَانْطَلَقَا بِي ، فَجَاءَتْ خَيْلٌ مِنْ تِهَامَةَ ، فَأَصَابَتْ زَيْدًا ، فَتَرَاقَى بِهِ الْأَمْرُ إلَى خَدِيجَةَ ، فَوَهَبَتْهُ خَدِيجَةَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَغْزُ وَغَزَا زَيْدٌ أَعْطَاهُ سِلَاحَهُ .
وَأُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مِرْجَلَانِ ، فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا ، وَأَعْطَى عَلِيًّا الْآخَرَ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ابْتَاعَهُ ، وَكَانَ مَسْبِيًّا مِنْ الشَّامِ ، فَوَهَبَهُ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ ، فَوَهَبَتْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَنَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُوهُ يَدُورُ بِالشَّامِ وَيَقُولُ : بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلٌ أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَسَائِلٌ أَغَالَك بَعْدِي السَّهْلُ أَمْ غَالَك الْجَبَلْ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي
هَلْ لَك الدَّهْرُ أَوْبَةً فَحَسْبِي مِنْ الدُّنْيَا رُجُوعُك لِي أَمَلْ تُذَكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَتُعْرِضُ ذِكْرَاهُ إذَا غَرْبُهَا أَفَلْ فَإِنْ هَبَّتْ الْأَرْوَاحُ هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ فَيَا طُولُ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَيَا وَجَلْ سَأُعْمِلُ نَصَّ الْعِيسِ فِي الْأَرْضِ جَاهِدًا وَلَا أَسْأَمُ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي فَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الْأَمَلْ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ بِمَكَّةَ ، فَجَاءَ إلَيْهِ ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ إلَيْهِ ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَارَ الْمَقَامَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعَادَتِهِ ، وَتَبَنَّاهُ وَرَبَّاهُ ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى رَسْمِ الْعَرَبِ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } .
فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَارِثَةَ ، وَعَرَفَتْ كَلْبٌ نَسَبَهُ ، فَأَقَرُّوا بِهِ ، وَأَثْبَتُوا نِسْبَتَهُ .
وَهُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ؛ أَيْ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ قَوْلًا وَحُكْمًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا أَبَ لَهُ مِنْ وَلَدٍ دُعِيَ أَوْ لِعَانٍ لَا يَنْتَسِبُ إلَى أُمِّهِ ، وَلَكِنَّهُ يُقَالُ أَخُو مُعْتِقِهِ وَوَلَدُهُ إنْ كَانَ حُرًّا ، أَوْ عَبْدُهُ إنْ كَانَ رِقًّا .
فَأَمَّا وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ إنْ كَانَ حُرًّا فَإِنَّهُ يُدْعَى إلَى أُمِّهِ ، فَيُقَالُ : فُلَانٌ ابْنُ فُلَانَةَ ، لِأَنَّ أَسْبَابَهُ فِي انْتِسَابِهِ مُنْقَطِعَةٌ ، فَرَجَعَتْ إلَى أُمِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِيهِ إطْلَاقُ اسْمِ الْأُخُوَّةِ دُونَ إطْلَاقِ اسْمِ الْأُبُوَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت إخْوَانَنَا .
قَالُوا : أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك ، قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي ، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَوَالِيكُمْ } يَجُوزُ إطْلَاقُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ ، وَعَلَى الْمُعْتِقِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ ، وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الْوِلَايَةِ ، وَهِيَ الْقُرْبُ ، كَمَا تَرْجِعُ الْأُخُوَّةُ إلَى أَصْلٍ هُوَ مَقَامُ الْأُبُوَّةِ مِنْ الدِّينِ وَالصَّدَاقَةِ .
وَلِلْمَوْلَى ثَمَانِيَةُ مَعَانٍ ، مِنْهَا مَا يَجْتَمِعُ أَكْثَرُهَا فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ مُعَايَنَةِ اثْنَيْنِ بِحَسَبِ مَا يُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ ، وَيَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَتَوْجِيهُ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ : هَذَا نَاسِخٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ التَّبَنِّي وَالتَّوَارُثِ ، وَيَكُونُ نَسْخًا لِلسُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا ؛ لِعَدَمِ شُرُوطِ النَّسْخِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ مَا جَاءَ مِنْ الشَّرِيعَةِ لَا يُقَالُ إنَّهُ نَسْخٌ لِبَاطِلِ الْخَلْقِ ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَالِ وَالضَّلَالِ ، وَقَبِيحِ الْأَفْعَالِ ، وَمُسْتَرْسَلِ الْأَعْمَالِ ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ نَسْخَ الِاشْتِقَاقِ ، بِمَعْنَى الرَّفْعِ الْمُطْلَقِ ، وَالْإِزَالَةِ الْمُبْهَمَةِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ غَزْوَةَ تَبُوكَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ ، فَقَالَ قَوْمٌ : نَسْتَأْذِنُ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } } .
وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ : وَهُوَ أَبُوهُمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ .
وَالْحَدِيثُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَوْضُوعٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا ، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضِيَاعًا فَلْيَأْتِنِي ، فَأَنَا مَوْلَاهُ } .
فَانْقَلَبَتْ الْآنَ الْحَالُ بِالذُّنُوبِ ، فَإِنْ تَرَكُوا مَالًا ضُويِقَ الْعَصَبَةُ فِيهِ ، وَإِنْ تَرَكُوا ضِيَاعًا أَسْلَمُوا إلَيْهِ ، فَهَذَا تَفْسِيرُ الْوِلَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْيِينِهِ ، وَلَا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } وَلَسْنَ لَهُمْ بِأُمَّهَاتٍ ، وَلَكِنْ أُنْزِلْنَ مَنْزِلَتَهُنَّ فِي الْحُرْمَةِ ، كَمَا يُقَالُ : زَيْدُ الشَّمْسِ ، أَيْ أُنْزِلَ فِي حُسْنِهِ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ ، وَحَاتِمُ الْبَحْرِ أَيْ أُنْزِلَ فِي عُمُومِ جُودِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ ؛ كُلُّ ذَلِكَ تَكْرِمَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِفْظًا لِقَلْبِهِ مِنْ التَّأَذِّي بِالْغَيْرَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ : { تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي } .
وَلِهَذَا قَالَ : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } .
وَلَمْ يُنَزَّلْ فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ أَحَدٌ مَنْزِلَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رُوعِيَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصِّيصَةُ ، وَإِنْ غَارَ وَتَأَذَّى ؛ وَلَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ مَعَ حَظِّ الْمَنْزِلَةِ مِنْ خَفِيفِ الْأَذَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : حَرَّمَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ بَعْدِهِ ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ : { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } فَكُلُّ مَنْ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَخَلَّى عَنْهَا فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ ، فَقِيلَ : هِيَ لِمَنْ دَخَلَ بِهَا دُونَ مَنْ فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَقَدْ هَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ فَارَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ ، فَقَالَتْ لَهُ : وَلِمَ ؟ وَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِجَابًا وَلَا دُعِيت أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ .
فَكَفَّ عَنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } اخْتَلَفَ النَّاسُ ، هَلْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، أَمْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ خَاصَّةً ، عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقِيلَ : ذَلِكَ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
وَقِيلَ : هُوَ خَاصٌّ لِلرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ إنْزَالُهُنَّ مَنْزِلَةَ أُمَّهَاتِهِمْ فِي الْحُرْمَةِ ، حَيْثُ يُتَوَقَّعُ الْحِلُّ ، وَالْحِلُّ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ بَيْنَ النِّسَاءِ ، فَلَا يُحْجَبُ بَيْنَهُنَّ بِحُرْمَةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ : يَا أُمَّاهُ .
فَقَالَتْ : لَسْت لَك بِأُمٍّ ، إنَّمَا أَنَا أُمُّ رِجَالِكُمْ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
وَثَبَتَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَبَيْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، فَارْتَثَّ كَعْبٌ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَجَاءَ بِهِ الزُّبَيْرُ يَقُودُهُ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ ، فَلَوْ مَاتَ يَوْمَئِذٍ كَعْبٌ عَنْ الضِّحِّ وَالرِّيحِ لَوَرِثَهُ الزُّبَيْرُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقَرَابَةَ أَوْلَى مِنْ الْحَلِفِ ، فَتُرِكَتْ الْمُوَارَثَةُ بِالْحَلِفِ ، وَوَرِثُوا بِالْقَرَابَةِ ، وَقَوْلُهُ : { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } يَتَعَلَّقُ حَرْفُ الْجَرِّ بِأَوْلَى ، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ ، لَا بِقَوْلِهِ : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ } بِإِجْمَاعٍ ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُوجِبُ تَخْصِيصَهَا بِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا خِلَافَ فِي عُمُومِهَا ، وَهَذَا حَلُّ إشْكَالِهَا .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } .
فِيهَا أَحْكَامٌ وَسِيَرٌ ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مَالِكٌ ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا ، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ ، وَالْأَحْزَابِ ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ ، وَكَانَتْ حَالَ شِدَّةٍ ، مُعَقَّبَةٌ بِنِعْمَةٍ ، وَرَخَاءٍ وَغِبْطَةٍ ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي تِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً ، وَيَقْتَضِي مَسَائِلَ ثَلَاثًا : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } قَالَ : ذَلِكَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ } ، جَاءَتْ قُرَيْشٌ مِنْ هَاهُنَا ، وَالْيَهُودُ مِنْ هَاهُنَا ، وَالنَّجْدِيَّةُ مِنْ هَاهُنَا ، يُرِيدُ مَالِكٌ أَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ فَوْقِهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ : كَانَتْ وَقْعَةُ الْخَنْدَقِ سَنَةَ أَرْبَعٍ ، وَهِيَ وَبَنُو قُرَيْظَةَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ أَرْبَعُ سِنِينَ .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ سَنَةَ خَمْسٍ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ نَزَلَتْ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ ، وَجَاءَ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ ، وَهُوَ عَلَى أَتَانٍ ، فَمَرَّ بِهِ حَتَّى لَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْمُنَافِقُ قَالَ : أَنْشَدْتُك اللَّهَ يَا سَعْدُ فِي إخْوَانِي وَأَنْصَارِي ، ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتُّمِائَةِ رَاجِلٍ ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحِي ، وَهُمْ مَوَالِيك وَحُلَفَاؤُك .
فَقَالَ سَعْدٌ : قَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلَّا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ ، فَحَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ ،
وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَقَدْ حَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ بِحُكْمِ الْمَلِكِ } .
زَادَ غَيْرُهُ : مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ .
{ فَأَتَى ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إلَى ابْنِ بَاطَا ، وَكَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ يَدٌ ، وَقَالَ : قَدْ اسْتَوْهَبْتُك مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدِك الَّتِي لَك عِنْدِي .
قَالَ : كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْكَرِيمُ بِالْكَرِيمِ .
ثُمَّ قَالَ : وَكَيْفَ يَعِيشُ رَجُلٌ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا أَهْلَ ؟ قَالَ : فَأَتَى ثَابِتٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَأَعْطَاهُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ .
فَأَتَاهُ فَأَعْلَمَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَكَيْفَ يَعِيشُ رَجُلٌ لَا مَالَ لَهُ ، فَأَتَى ثَابِتٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَبَهُ ، فَأَعْطَاهُ مَالَهُ .
فَرَجَعَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : مَا فَعَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيَّةٌ ؟ قَالَ : قُتِلَ .
فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ ، وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ ؟ قَالَ : قُتِلُوا .
قَالَ : فَمَا فَعَلَتْ الْقَيْنَتَانِ ؟ قَالَ : قُتِلَتَا .
قَالَ : بَرِئَتْ ذِمَّتُك ، وَلَنْ أَصُبَّ فِيهَا دَلْوًا أَبَدًا يَعْنِي النَّخْلَ فَأَلْحِقْنِي بِهِمْ ، فَأَبَى أَنْ يَقْتُلَهُ وَقَتَلَهُ غَيْرُهُ } .
وَالْيَدُ الَّتِي كَانَتْ لِابْنِ بَاطَا عِنْدَ ثَابِتٍ أَنَّهُ أَسَرَهُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ وَأَطْلَقَهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ تُوُفِّيَ سَعْدٌ : نَخْشَى أَنْ نُغْلَبَ عَلَيْك ، كَمَا غُلِبْنَا عَلَى حَنْظَلَةَ .
قَالَ : وَكَانَ قَدْ أُصِيبَ فِي أَكْحَلِهِ ، فَانْتَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ .
} { وَكَانَتْ عَائِشَةُ مَعَ