مصر اسلامية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ التوبة (51)
 
الرئيسيةمحرك بحثأحدث الصورالتسجيلدخول

مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَاالْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ الرعد (35)

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِفَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ آل عمران (103)

اختر لغة الموقع من هنا
أختر لغة المنتدى من هنا
ناشونال جرافيك
كتاب أحكام القرآن ج20 Uoouuo10
الجزيرة - مباشر مصر
كتاب أحكام القرآن ج20 _uoooo10
الجزيرة نت
كتاب أحكام القرآن ج20 Ouoous17
الجزيرة america
كتاب أحكام القرآن ج20 Ouoous18
الاخوان المسلمون
كتاب أحكام القرآن ج20 Ouoouo14
cnn english
كتاب أحكام القرآن ج20 Oouu_o11
جريدة الشعب
كتاب أحكام القرآن ج20 Oousoo10
احرار 25
كتاب أحكام القرآن ج20 Ooooo_11
شبكة رصد الاخبارية
كتاب أحكام القرآن ج20 Oouo14
الجزيرة الوثائقية
كتاب أحكام القرآن ج20 Ouoous19
CNN بالعربية
كتاب أحكام القرآن ج20 Oouooo10
المواضيع الأخيرة
» خطبة عيد الفطر 2016(صلة الرحم ) للشيخ أسامة موسى عبدالله الأزهري برقم 1045
كتاب أحكام القرآن ج20 I_icon_minitimeالسبت يناير 28, 2017 9:02 am من طرف mousa

» حدوتة مصرية وفقرة عن مناسك الحج وكيفية الاستعداد لها
كتاب أحكام القرآن ج20 I_icon_minitimeالسبت يناير 28, 2017 9:01 am من طرف mousa

» خطبة الحقوق المتكافئة ويوم عرفه للشيخ أسامةموسى عبدالله الأزهري برقم
كتاب أحكام القرآن ج20 I_icon_minitimeالسبت يناير 28, 2017 8:59 am من طرف mousa

» فضل الحج والعشر ويوم عرفة للشيخ أسامة موسى عبدالله الأزهري قناة النيل الثقافية
كتاب أحكام القرآن ج20 I_icon_minitimeالسبت يناير 28, 2017 8:57 am من طرف mousa

» الأضحية ومايتعلق بها(للشيخ أسامة موسى عبدالله الأزهري برقم
كتاب أحكام القرآن ج20 I_icon_minitimeالسبت يناير 28, 2017 8:55 am من طرف mousa

» الهجرة النبوية اسباب ودروس للشيخ اسامه موسي عبدالله الازهري بتاريخ 3 10 2016
كتاب أحكام القرآن ج20 I_icon_minitimeالسبت يناير 28, 2017 8:53 am من طرف mousa

» خطبة العيد التضحية والاضحية 2016 للشيخ أسامة موسى عبدالله الأزهري
كتاب أحكام القرآن ج20 I_icon_minitimeالسبت يناير 28, 2017 8:52 am من طرف mousa

» درس حق الزوجة للشيخ أسامة موسى عبدالله الأزهري
كتاب أحكام القرآن ج20 I_icon_minitimeالسبت يناير 28, 2017 8:50 am من طرف mousa

» خطبة الخطبة الهجرة النبويةوالبناء والأخلاق للشيخ أسامة موسى عبدلله الأزهري 2016
كتاب أحكام القرآن ج20 I_icon_minitimeالسبت يناير 28, 2017 8:48 am من طرف mousa

المهندس محمد موسى
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10
كتاب أحكام القرآن ج20 Uo_ouu10

 

 كتاب أحكام القرآن ج20

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
mousa
.
.
mousa


مصر
عدد المساهمات : 6914

كتاب أحكام القرآن ج20 Empty
مُساهمةموضوع: كتاب أحكام القرآن ج20   كتاب أحكام القرآن ج20 I_icon_minitimeالإثنين أغسطس 01, 2011 6:19 am

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّقْفَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْتَ عِبَارَةٌ عَنْ قَاعَةٍ وَجِدَارٍ وَسَقْفٍ وَبَابٍ ، فَمَنْ لَهُ الْبَيْتُ فَلَهُ أَرْكَانُهُ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْعُلُوَّ لَهُ إلَى السَّمَاءِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي السُّفْلِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ لَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَيْسَ لَهُ فِي بَطْنِ الْأَرْضِ شَيْءٌ .
وَفِي مَذْهَبِنَا الْقَوْلَانِ .
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُ الْإِسْرَائِيلِيِّ الصَّحِيحُ فِيمَا تَقَدَّمَ : أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا فَبَنَاهَا فَوَجَدَ فِيهَا جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ ، فَجَاءَ بِهَا إلَى الْبَائِعِ ، فَقَالَ : إنَّمَا اشْتَرَيْت الدَّارَ دُونَ الْجَرَّةِ .
وَقَالَ الْبَائِعُ : إنَّمَا بِعْت الدَّارَ بِمَا فِيهَا .
وَكِلَاهُمَا تَدَافَعَا فَقَضَى بَيْنَهُمْ أَنْ يُزَوِّجَ أَحَدُهُمَا وَلَدَهُ مِنْ بِنْتِ الْآخَرِ ، وَيَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْعُلُوَّ وَالسُّفْلَ لَهُ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ بِالْبَيْعِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا أَحَدَ الْمَوْضِعَيْنِ فَلَهُ مِنْهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَبَاقِيهِ لِلْمُبْتَاعِ مِنْهُ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الذِّكْرِ ؛ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهُمَا : الشَّرَفُ .
الثَّانِي : الذِّكْرَى بِالْعَهْدِ الْمَأْخُوذِ فِي الدِّينِ .
الثَّالِثُ : قَالَ مَالِكٌ : هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ .
وَإِذَا قُلْنَا : إنَّهُ الشَّرَفُ وَالْفَضْلُ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةً إنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ ، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا شَرَفَ فِيهَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَفَاخُرَهَا بِالْأَحْسَابِ ، وَالنَّاسُ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أَوْ كَافِرٌ شَقِيٌّ ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ، وَإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وَقِيلَ : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَك وَلِقَوْمِك يَعْنِي الْخِلَافَةَ فَإِنَّهَا فِي قُرَيْشٍ لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِمْ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ } .
وَقَالَ مَالِكٌ : هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ ، وَلَمْ أَجِدْ فِي الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ إلَّا بِبَغْدَادَ ، فَإِنَّ بَنِي التَّمِيمِيِّ بِهَا يَقُولُونَ : حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِذَلِكَ شَرُفَتْ أَقْدَارُهُمْ ، وَعَظَّمَ النَّاسُ شَأْنَهُمْ وَتَهَمَّمَتْ الْخِلَافَةُ بِهِمْ .
وَرَأَيْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ابْنَيْ أَبِي مُحَمَّدٍ رِزْقَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنَ أَبِي الْفَرَحِ بْنَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْجَرْدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَكَيْنَة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيَّ وَكَانَا يَقُولَانِ : سَمِعْنَا أَبَانَا رِزْقَ اللَّهِ يَقُولُ : سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : سَمِعْت أَبِي يَقُولُ : سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ الْحَنَّانِ الْمَنَّانِ ، الْحَنَّانُ الَّذِي
يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ .
وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ ، وَالْقَائِلُ سَمِعْت عَلِيًّا أَكْيَنَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ جَدُّهُمْ الْأَعْلَى .
وَالْأَقْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِك } يَعْنِي الْقُرْآنَ ، فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْكَلَامُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْجَنَّةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْحَرِيرِ وَالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ لُبْسًا وَأَكْلًا وَشُرْبًا وَانْتِفَاعًا ، وَقَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْخَلْقِ إجْمَاعًا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَحْكَامِ ، وَتَفْصِيلٍ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، فَأَمَّا الْحَرِيرُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } .
قَالَ الرَّاوِي : وَإِنْ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَأْوِيلِ الرَّاوِي .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا .
وَأَمْثَلُهَا تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ وَلَمْ يَتُبْ ، كَمَا قَالَ : { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ } ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَرِيرِ أَيْضًا بِنَصِّهِ .
الثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي يُقْضَى [ بِنَصِّهِ ] عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، وَآخِرُ الْأَمْرِ إلَى حُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَجَمِيلِ الْمَآلِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْمَرَضِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا الْعَلَمَ .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
التَّاسِعُ : أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لُبْسُهُ دُونَ فَرْشِهِ ؛
قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ .
فَأَمَّا كَوْنُهُ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُلَّةِ السِّيَرَاءِ : { إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ } ، وَشَبَهُهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْحَرْبِ فَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْغَزْوِ بِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ ؛ وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ فِيهِمَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ مِنْ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا فِي الْحَرْبِ ، فَرُخِّصَ فِيهِ مِنْ الْإِرْهَابِ عَلَى الْعَدُوِّ .
وَهَذَا تَعْلِيلُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ ، فَظَنَّ أَنَّ النَّصْرَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ فَتَحَ اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا الْعَلَابِيَّ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي السَّفَرِ فَلَمَّا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَحْرُمُ إلَّا فِي الْمَرَضِ فَلِأَجْلِ إبَاحَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا اسْتِعْمَالَهُ عِنْدَ الْحَكَّةِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا فِي الْغَزْوِ فَلِأَجْلِ مَا وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَنَسٍ { إنَّهُ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا } ، فَذِكْرُ لَفْظِ الْغَزْوِ فِي الْعِلَّةِ ، وَذِكْرُ الصِّفَةِ فِي الْحُكْمِ تَعْلِيلٌ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ وَهَا هُنَا كَمَا سَبَقَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُبَاحٌ بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ يُبِيحُهُ لِلْحَكَّةِ ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الصَّحِيحِ { لِأَجْلِ الْقَمْلِ } ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا مَا أَبَاحَهُ لِلْحَكَّةِ وَلَا لِلْقَمْلِ ، كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ ، فَإِنَّ التَّدَاوِي بِمَا حَرَّمَ اللَّهُ لَا
يَجُوزُ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ ثَبَتَ يَقِينًا ، وَالرُّخْصَةَ قَدْ وَرَدَتْ حَقًّا ، وَلِلْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَضَعَ وَظَائِفَ التَّحْرِيمِ كَيْفَ شَاءَ مِنْ إطْلَاقٍ وَاسْتِثْنَاءٍ ؛ وَإِنَّمَا أَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَهُمَا لِأَجْلِ الْقَمْلِ وَالْحَكَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ خَمَائِصُ غَلِيظَةٌ لَا يَحْتَمِلُهَا الْبَدَنُ ، فَنَقَلَهُمْ إلَى الْحَرِيرِ ، لِعَدَمِ دَقِيقِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ ، وَإِذَا وَجَدَ صَاحِبُ الْجَرَبِ وَالْقَمْلِ دَقِيقَ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ لِينَ الْحَرِيرِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا الْعَلَمَ ، فَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ إبَاحَةِ الْعَلَمِ ، وَتَقْدِيرُهُ بِأُصْبُعَيْنِ .
وَفِي رِوَايَةٍ بِثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ ؛ وَالْيَقِينُ ثَلَاثُ أَصَابِعَ ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ ، وَالْأَرْبَعُ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُكَفُّ الثَّوْبُ بِالْحَرِيرِ كَمَا يَجُوزُ إدْخَالُ الْعَلَمِ فِيهِ ، لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ فَرْوَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالدِّيبَاجِ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ قَالَ : { أَخْرَجَتْ إلَيَّ أَسْمَاءَ طَيَالِسَةً كِسْرَوَانِيَّةً ، لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ ، وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ بِالدِّيبَاجِ ، فَقَالَتْ : هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ تَلْبَسُهَا حَتَّى قُبِضَتْ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُهَا ، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى لِيُسْتَشْفَى بِهَا } .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَأَصْلٌ صَرِيحٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ خَطَبَ فَقَالَ : أَلَا لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْحَرِيرَ ؛ فَإِنِّي سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ يَقُولُ : { لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ ، فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا
لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } .
وَهَذَا ظَنٌّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ يَدْفَعُهُ يَقِينُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَةٍ ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : { أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةٌ سِيَرَاءُ ، فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ فَلَبِسْتهَا ، فَعَرَفْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ، وَقَالَ : إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا ، إنَّمَا بَعَثْتهَا إلَيْك لِتَشُقَّهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { شَقَّقَهُ خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ } ، إحْدَاهُنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ عَلِيَّ ، وَالثَّانِيَةُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنُ هَاشِمٍ زَوْجُ أَبِي طَالِبٍ أُمُّ عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ وَعَقِيلٌ وَطَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَتْ أَسْلَمَتْ ، وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وُلِدَتْ لِهَاشِمِيٍّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْرِهِمَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّمَا حُرِّمَ لُبْسُهُ لَا فَرْشُهُ ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ فَهِيَ نَزْغَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ لَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ اللِّبَاسُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ ، وَالْفَرْشُ وَالْبَسْطُ لَيْسَ لُغَةً ، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي الشَّرِيعَةِ ؛ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ فِيهِ : { فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ } .
وَهَذَا نَصٌّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَة الْحَرِيرُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ ، وَحَلَالٌ لِلنِّسَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَّخِذَ ثِيَابَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ ، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا فِيهَا ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ تَزَوَّجَ : اتَّخَذْت أَنْمَاطًا ؟ قُلْت : وَأَنَّى لَنَا الْأَنْمَاطُ ؟ قَالَ : أَمَا إنَّهَا سَتَكُونُ } .
وَلَيْسَ يَلْزَمُ الرَّجُلَ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْ ثِيَابِهَا ، وَلَا أَنْ يُعَرِّيَ بَيْتَهَا وَفِرَاشَهَا ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَمْتِعُ بِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لُبْسُ الْخَزِّ جَائِزٌ ، وَهُوَ مَا سَدَاه حَرِيرٌ وَلَيْسَ لُحْمَتُهُ مِنْهُ ؛ وَقَدْ لَبِسَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَكَانَ يَرَى الْحَرِيرَ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ ، وَلِهَذَا أَدْخَلَهُ مَالِكٌ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّإِ ، وَقَدْ لَبِسَهُ عُثْمَانُ ، وَكَفَى بِهِ حُجَّةً ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمِ } .
وَرَوَى حُذَيْفَةُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا ، وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ } .
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ اسْتِعْمَالُهَا فِي شَيْءٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ : { هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } ؛ وَالنَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهَا ، وَسَائِرُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِهَا ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْمَتَاعِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، أَصْلُهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ ؛ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ اسْتِعْجَالُ أَجْرِ الْآخِرَةِ ؛ وَذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الِانْتِفَاعِ ؛ وَلِأَنَّهُ { عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ } ؛ فَلَمْ يَجْعَلْ لَنَا فِيهَا حَظًّا فِي الدُّنْيَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ مُضَبَّبًا بِهِمَا أَوْ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْهُمَا ، فَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُشْرَبَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْمِرْآةُ تَكُونُ فِيهَا الْحَلْقَةُ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهَا وَجْهَهُ ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ أَنَسٍ إنَاءٌ مُضَبَّبٌ بِالْفِضَّةِ .
وَقَالَ : { لَقَدْ سَقَيْت فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : كَانَتْ فِيهِ حَلْقَةُ حَدِيدٍ ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ فِيهِ حَلْقَةَ فِضَّةً ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِمَّا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَتَرَكَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ إذَا لَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُهَا لَمْ يَجُزْ اقْتِنَاؤُهَا ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ كَالصَّنَمِ وَالطُّنْبُورِ .
وَفِي كُتُبِ عُلَمَائِنَا إنَّهُ يَلْزَمُ الْغُرْمُ فِي قِيمَتِهَا لِمَنْ كَسَرَهَا ؛ وَهُوَ مَعْنَى فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ كَسْرَهَا وَاجِبٌ ؛ فَلَا ثَمَنَ لِقِيمَتِهَا ؛ وَلَا يَجُوزُ تَقْوِيمُهَا فِي الزَّكَاةِ بِحَالٍ ، وَغَيْرُ هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ بِأَبْلَغَ مِنْ هَذَا .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ ، وَوِلَايَةٌ كَرِيمَةٌ ، فِيهَا تَنْفِيذُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَا قَدْ عَلِمَهُ الشَّاهِدُ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا يَكُونُ قَطْعًا عِنْدَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ ظَاهِرًا ، وَذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ الدُّخَانِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ بِاللَّيْلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِنْهُ لَيْلِيًّا وَمِنْهُ نَهَارِيًّا وَمِنْهُ سَفَرِيٌّ وَحَضَرِيٌّ ، وَمِنْهُ مَكِّيٌّ وَمَدَنِيٌّ ، وَمِنْهُ سَمَائِي وَأَرْضِيٌّ ، وَمِنْهُ هَوَائِيٌّ ؛ وَالْمُرَادُ هَاهُنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أُنْزِلَ جُمْلَةً فِي اللَّيْلِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ مَا فِي عِشْرِينَ عَامًا وَنَحْوِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { مُبَارَكَةٍ } الْبَرَكَةُ : هِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ ، وَسَمَّاهَا مُبَارَكَةً لِمَا يُعْطِي اللَّهُ فِيهَا مِنْ الْمَنَازِلِ ، وَيَغْفِرُ مِنْ الْخَطَايَا ، وَيُقَسِّمُ مِنْ الْحُظُوظِ ، وَيَبُثُّ مِنْ الرَّحْمَةِ ، وَيُنِيلُ مِنْ الْخَيْرِ ، وَهِيَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ وَتَفْسِيرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ تَعْيِينُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ : وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ الصَّادِقِ الْقَاطِعِ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } فَنَصَّ عَلَى أَنَّ مِيقَاتَ نُزُولِهِ رَمَضَانُ ، ثُمَّ عَبَّرَ عَنْ زَمَانِيَّةِ اللَّيْلِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ : { فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ ، وَلَيْسَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، لَا فِي فَضْلِهَا ، وَلَا فِي نَسْخِ الْآجَالِ فِيهَا ، فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهَا .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى السُّرَى : سَيْرُ اللَّيْلِ .
وَالْإِدْلَاجُ : سَيْرُ السَّحَرِ ، وَالْإِسْآدُ : سَيْرُهُ كُلِّهِ .
وَالتَّأْوِيبُ : سَيْرُ النَّهَارِ .
وَيُقَالُ : سَرَى وَأَسْرَى ، وَقَدْ يُضَافُ إلَى اللَّيْلِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاللَّيْلِ إذَا يَسْرِ } وَهُوَ يُسْرَى فِيهِ ، كَمَا قِيلَ : لَيْلٌ نَائِمٌ ، وَهُوَ يُنَامُ فِيهِ ؛ وَذَلِكَ مِنْ اتِّسَاعَاتِ الْعَرَبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا } أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ بِاللَّيْلِ ، وَسَيْرُ اللَّيْلِ يَكُونُ مِنْ الْخَوْفِ ؛ وَالْخَوْفُ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : إمَّا مِنْ الْعَدُوِّ فَيُتَّخَذُ اللَّيْلُ سِتْرًا مُسْدَلًا ، فَهُوَ مِنْ أَسْتَارِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَإِمَّا مِنْ خَوْفِ الْمَشَقَّةِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْأَبَدَانِ بِحَرٍّ أَوْ جَدْبٍ ، فَيُتَّخَذُ السُّرَى مَصْلَحَةً مِنْ ذَلِكَ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْرَى وَيُدْلَجُ وَيَتَرَفَّقُ وَيَسْتَعْجِلُ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَحَسْبَ الْعَجَلَةِ ، وَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ .
وَفِي جَامِعِ الْمُوَطَّإِ : { إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيَرْضَى بِهِ ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ ، فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعَجَمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوَا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا ، وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تَطْوِي بِاللَّيْلِ مَا لَا تَطْوِي بِالنَّهَارِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الزَّقُّومُ : كُلُّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ ، يُقَالُ : تَزَقَّمَ الرَّجُلُ إذَا تَنَاوَلَ مَا يَكْرَهُ .
وَيُحْكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الزَّقُّومَ هُوَ التَّمْرُ وَالزُّبْدُ بِلِسَانِ الْبَرْبَرِ ، وَيَا لِلَّهِ وَلِهَذَا الْقَائِلِ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْكِتَابِ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَقْرَأَ رَجُلًا طَعَامَ الْأَثِيمَ فَلَمْ يَفْهَمْهَا ؛ فَقَالَ لَهُ : طَعَامُ الْفَاجِرِ ، فَجَعَلَهَا النَّاسُ قِرَاءَةً ، حَتَّى رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : أَقْرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ فَجَعَلَ الرَّجُلَ يَقُولُ : طَعَامُ الْيَتِيمِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : طَعَامُ الْفَاجِرِ .
فَقُلْت لِمَالِكٍ : أَتَرَى أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَرَوَى الْبَصْرِيُّونَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ بِمَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ : لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ لَا يُصَلَّى بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى بِهَا أَعَادَ صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِالتَّفْسِيرِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي حَالِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، وَلَوْ صَحَّتْ قِرَاءَتُهُ لَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا سُنَّةً ، وَلَكِنَّ النَّاسَ أَضَافُوا إلَيْهِ مَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ : لَا يُقْرَأُ بِمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْهُ مَا فِي الْمُصْحَفِ الْأَصْلِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَفِي الْمُصْحَفِ الْأَصْلِيِّ قِرَاءَاتٌ وَاخْتِلَافَاتٌ فَبِأَيٍّ يُقْرَأُ ؟ قُلْنَا : وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ بِجَمِيعِهَا بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، فَمَا وُضِعَتْ إلَّا لِحِفْظِ الْقُرْآنِ ، وَلَا كُتِبَتْ إلَّا لِلْقِرَاءَةِ بِهَا ، وَلَكِنْ لَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يُعَيَّنَ الْمَقْرُوءُ بِهِ مِنْهَا ، فَيُقْرَأَ بِحَرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَأَهْلِ الشَّامِّ
، وَأَهْلِ مَكَّةَ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَلَّا يَخْرُجَ عَنْهَا ، فَإِذَا قَرَأَ آيَةً بِحَرْفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَقَرَأَ الَّتِي بَعْدَهَا بِحَرْفِ أَهْلِ الشَّامِ كَانَ جَائِزًا ، وَإِنَّمَا ضَبَطَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ قِرَاءَتَهُمْ بِنَاءً عَلَى مُصْحَفِهِمْ ، وَعَلَى مَا نَقَلُوهُ عَنْ سَلَفِهِمْ ، وَالْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ، فَاقْرَءُوا مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ } .
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَتَمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَهَمَّ أَنْ يَبْطِشَ بِهِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي إعْرَابِهَا : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابَ هَذَا الْأَمْرِ ، وَجَاءَ ظَاهِرُهُ هَاهُنَا جَوَابًا مَجْزُومًا ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا [ اغْفِرُوا ] يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجَاءِ الْمُطْلَقِ ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَيَّامُ عِبَارَةً عَنْ النِّعَمِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَوْفِ ، وَيُعَبَّرُ بِالْأَيَّامِ عَنْ النِّقَمِ ، وَبِالْكُلِّ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ هَذَا مِنْ الْمَغْفِرَةِ وَشَبَهُهُ مِنْ الصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الشَّرِيعَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الطَّرِيقِ إلَى الْمَاءِ ، ضُرِبَتْ مَثَلًا لِلطَّرِيقِ إلَى الْحَقِّ لِمَا فِيهَا مِنْ عُذُوبَةِ الْمَوْرِدِ ، وَسَلَامَةِ الْمَصْدَرِ ، وَحُسْنِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمُرَادِ بِهَا مِنْ وُجُوهِ الْحَقِّ .
وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَمْرَ الدِّينُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ السُّنَّةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْفَرَائِضُ .
الرَّابِعُ : النِّيَّةُ .
وَهَذِهِ كَلِمَةٌ أَرْسَلَهَا مَنْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِلْحَقَائِقِ ، وَالْأَمْرُ يَرِدُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الشَّأْنِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } .
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَحَدُ أَقْسَامِ الْكَلَامِ الَّذِي يُقَابِلُهُ النَّهْيُ ، وَكِلَاهُمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هَاهُنَا ، وَتَقْدِيرُهُ ثُمَّ جَعَلْنَاك عَلَى طَرِيقَةٍ مِنْ الدِّينِ ، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْك أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُغَايِرْ بَيْنَ الشَّرَائِعِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْمَكَارِمِ وَالْمَصَالِحِ ، وَإِنَّمَا خَالَفَ بَيْنَهَا فِي الْفُرُوعِ بِحَسْبِ مَا عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ظَنَّ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مِنْ قَبْلِنَا لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْرَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِشَرِيعَةٍ ؛ وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ مُنْفَرِدَانِ بِشَرِيعَةٍ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْعِظَةِ ، هَلْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا ؟ وَلَا إشْكَالَ فِي لُزُومِ ذَلِكَ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَقَدَّمْنَاهَا هُنَا وَفِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْبَيَانِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ : { اجْتَرَحُوا } مَعْنَاهُ افْتَعَلُوا مِنْ الْجُرْحِ ؛ وَضَرَبَ تَأْثِيرَ الْجُرْحِ فِي الْبَدَنِ كَتَأْثِيرِ السَّيِّئَاتِ فِي الدِّينِ مَثَلًا ، وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْأَمْثَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } فَإِنَّهَا عَلَى مَسَاقِهَا ؛ فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهَا .
سُورَةُ الْأَحْقَافِ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَسَاقِ الْآيَةِ ، وَهِيَ أَشْرَفُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا اسْتَوْفَتْ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ عَقْلِيَّهَا وَسَمْعِيَّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ } فَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّوْحِيدِ ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ ، وَانْفِرَادِ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْوُجُودِ وَالْخَلْقِ ، ثُمَّ قَالَ : { ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا } عَلَى مَا تَقُولُونَ ، وَهَذِهِ بَيَانٌ لِأَدِلَّةِ السَّمْعِ فَإِنَّ مُدْرِكَ الْحَقِّ إنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، ثُمَّ قَالَ : { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } يَعْنِي أَوْ عِلْمٍ يُؤْثَرُ ، أَوْ يُرْوَى وَيُنْقَلُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا ؛ فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْحِفْظِ مِثْلُ الْمَنْقُولِ عَنْ الْكُتُبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَالَ قَوْمٌ : إنَّ قَوْلَهُ : { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } يَعْنِي بِذَلِكَ عِلْمَ الْخَطِّ ، وَهُوَ الضَّرْبُ فِي التُّرَابِ لِمَعْرِفَةِ الْكَوَائِنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ فِيمَا مَضَى مِمَّا غَابَ عَنْ الضَّارِبِ ، وَأَسْنَدُوا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصِحَّ .
وَفِي مَشْهُورِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ } وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ جَاءَ لِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِهِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ يَفْعَلُهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : جَاءَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَلِكَ } .
وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ : لَعَمْرُك مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعٌ وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ أَرْبَابِهِ تَرْجِعُ إلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ ، فَيَدُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ مِنْ سَعْدٍ أَوْ نَحْسٍ يَحِلُّ بِهِمْ ، فَصَارَ ظَنًّا مَبْنِيًّا عَلَى ظَنٍّ ، وَتَعَلَّقَا بِأَمْرٍ غَائِبٍ قَدْ دَرَسَتْ طَرِيقُهُ ، وَفَاتَ تَحْقِيقُهُ ، وَقَدْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ ، وَأَخْبَرَتْ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ ، وَقَطَعَهُ عَنْ الْخَلْقِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَسْبَابٌ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا فِي دَرْكِ الْغَيْبِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ تِلْكَ الْأَسْبَابَ ، وَطَمَسَ تِلْكَ الْأَبْوَابَ ، وَأَفْرَدَ نَفْسَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ ؛ فَلَا يَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ دَعْوَاهُ ، وَطَلَبُهُ عَنَاءً لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَهْيٌ ، فَإِذْ قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ فَطَلَبُهُ مَعْصِيَةٌ أَوْ كُفْرٌ بِحَسَبِ قَصْدِ الطَّالِبِ .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://moosam66.yoo7.com
mousa
.
.
mousa


مصر
عدد المساهمات : 6914

كتاب أحكام القرآن ج20 Empty
مُساهمةموضوع: رد: كتاب أحكام القرآن ج20   كتاب أحكام القرآن ج20 I_icon_minitimeالإثنين أغسطس 01, 2011 6:24 am

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبْقِ مِنْ الْأَسْبَابِ الدَّالَّةِ عَلَى الْغَيْبِ الَّتِي أَذِنَ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا إلَّا الرُّؤْيَا ، فَإِنَّهُ أَذِنَ فِيهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْفَأْلُ .
فَأَمَّا الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا .
وَالْفَأْلُ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِمَا يَسْتَمِعُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَمْرِ إذَا كَانَ حَسَنًا ، فَإِنْ سَمِعَ مَكْرُوهًا فَهُوَ تَطَيُّرٌ ، وَأَمَرَ الشَّرْعُ بِأَنْ يَفْرَحَ بِالْفَأْلِ ، وَيَمْضِيَ عَلَى أَمْرِهِ مَسْرُورًا بِهِ .
فَإِذَا سَمِعَ الْمَكْرُوهَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَرْجِعْ لِأَجْلِهِ ، وَقَالَ كَمَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إلَّا طَيْرُك ، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُك ، وَلَا إلَهَ غَيْرُك } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأُدَبَاءِ : الْفَأْلُ وَالزَّجْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمْ مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالٌ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ إلَّا فِي الْفَأْلِ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ اسْتِثْنَاءٌ ، وَأَمَرَ بِهِ ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ هَذَا الشَّاعِرِ مَا نَظَمَهُ فِيهِ ، فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ بِجَهْلٍ ؛ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } .
رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً تَزَوَّجَتْ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ زُوِّجَتْ ، فَأَتَى بِهَا عُثْمَانَ ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْجُمَهَا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ : إنَّهَا إنْ تُخَاصِمْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَخْصِمْكُمْ ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } .
وَقَالَ : " وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ " فَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَالْفِصَالُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا ؛ فَخَلَّى سَبِيلَهَا .
فِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لَهُ ذَلِكَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَهُوَ اسْتِنْبَاطٌ بَدِيعٌ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْكُفَّارِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ ، لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِهَا : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ } ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ : أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا ، يُرِيدُ أَفْنَيْتُمُوهَا فِي الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ ، وَإِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْحَلَالِ وَاللَّذَّاتِ ، وَأَمَرَ بِاسْتِعْمَالِهَا فِي الطَّاعَاتِ ، فَصَرَفَهَا الْكُفَّارُ إلَى الْكُفْرِ فَأَوْعَدَهُمْ اللَّهُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ ، وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْمَعَاصِي ، يَدْخُلُ فِي وَعِيدٍ آخَرَ وَتَنَالُهُ آيَةٌ أُخْرَى بِرَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ ، وَيَرْجِعُ أَمْرُهُ إلَى الْمَشِيئَةِ ، فَيُنَفِّذُ اللَّهُ فِيهِ مَا عَلِمَهُ مِنْهُ وَكَتَبَهُ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَقَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، وَقَدْ ابْتَاعَ لَحْمًا بِدِرْهَمٍ ، فَقَالَ لَهُ : أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ ؛ فَإِنَّ تَعَاطِي الطَّيِّبَاتِ مِنْ الْحَلَالِ تَسْتَشْرِي لَهَا الطِّبَاعُ ، وَتَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا الْعَادَةُ ، فَإِذَا فَقَدْتهَا اسْتَسْهَلْت فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ ، وَحَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ ، وَاسْتَشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَارَةِ بِالسُّوءِ ، فَأَخَذَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَحَمَاهُ مِنْ ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ .
وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ : عَلَى الْمَرْءِ أَنْ
يَأْكُلَ مَا وَجَدَ طَيِّبًا كَانَ أَوْ قَفَارًا ، وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ ، وَيَتَّخِذَهُ عَادَةً ؛ وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْبَعُ إذَا وَجَدَ ، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ ، وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إذَا قَدَرَ عَلَيْهَا ، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إذَا اتَّفَقَ لَهُ ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا تَيَسَّرَ ، وَلَا يَعْتَمِدُهُ أَصْلًا ، وَلَا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا ، وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ ، وَطَرِيقَةُ أَصْحَابِهِ بَعْدُ مَنْقُولَةٌ ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ ، وَفَسَادِ الْحُطَامِ ، فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ ، وَاَللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَدِمَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ الْعِرَاقِ فَرَأَى الْقَوْمُ كَأَنَّهُمْ يَتَقَزَّزُونَ فِي الْأَكْلِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ؟ وَلَوْ شِئْت أَنْ يُدَهْمَقُ لِي كَمَا يُدَهْمَقُ لَكُمْ ، وَلَكِنَّا نَسْتَبْقِي مِنْ دُنْيَانَا مَا نَجِدُهُ فِي آخِرَتِنَا .
أَلَمِ تَسْمَعُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ قَوْمًا فَقَالَ : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } .
سُورَةُ مُحَمَّدٍ [ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَاَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي إعْرَابِهَا : قَالَ الْمُعْرِبُونَ : هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ ، تَقْدِيرُهُ فَاضْرِبُوا الرِّقَابَ ضَرْبًا .
وَعِنْدِي أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِقَوْلِك : اقْصِدُوا ضَرْبَ الرِّقَابِ ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } مَعْنَاهُ افْعَلُوا ذَلِكَ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي رِسَالَةٍ الْإِلْجَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ : { الَّذِينَ كَفَرُوا } : فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِيَةُ كُلُّ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا ذِمَّةَ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { ضَرْبَ الرِّقَابِ } قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْقِتَالُ ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَتْلُ الْأَسِيرِ صَبْرًا .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الْقِتَالِ ، وَهُوَ اللِّقَاءُ ، وَإِنَّمَا نَسْتَفِيدُ قَتْلَ الْأَسِيرِ صَبْرًا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ وَأَمْرِهِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى .
{ حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
الْمَعْنَى اُقْتُلُوهُمْ حَتَّى إذَا كَثُرَ ذَلِكَ ، وَأَخَذْتُمْ مَنْ بَقِيَ فَأَوْثِقُوهُمْ شَدًّا ؛ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ فَتُطْلِقُوهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوهُمْ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي عِزَّةَ وَبِثُمَامَةَ .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ : هُوَ الْعِتْقُ ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ وَالتَّرْكَ مَعْنًى ، وَالْعِتْقَ مَعْنًى ، وَإِنْ كَانَ فِي الْعِتْقِ مَعْنَى التَّرْكِ فَلَيْسَ حُكْمُهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } ، وَيَعْنِي ثَقَلَهَا ، وَعَبَّرَ عَنْ السِّلَاحِ بِهِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا حَتَّى يُؤْمِنُوا وَيَذْهَبَ الْكُفْرُ ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
الثَّانِي حَتَّى يُسْلِمَ الْخَلْقُ ؛ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ .
الثَّالِثُ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُحَكَّمَةٌ ؟ فَقِيلَ : هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّهُمْ لَا يُعَاهَدُونَ .
وَقِيلَ : إنَّهَا مُحَكَّمَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الثَّالِثُ أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ بَعْدَ الْإِثْخَانِ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، لِقَوْلِهِ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } .
وَالتَّحْقِيقُ الصَّحِيحُ أَنَّهَا مُحَكَّمَةٌ فِي الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ فِي التَّنْقِيحِ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ وَمُحْكَمَاتِهَا ؛ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا بِالْقِتَالِ ، وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهُ كَمَا بَيَّنَهُ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْأَنْفَالِ ؛ فَإِذَا تَمَكَّنَ الْمُسْلِمُ مِنْ عُنُقِ الْكَافِرِ أَجْهَزَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ضَرْبِ يَدِهِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَيَتَنَاوَلُ بِهَا قِتَالَ غَيْرِهِ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ إلَّا ضَرَبَ فَرَسَهُ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مُرَادِهِ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ رَاجِلًا مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَهُ قَصْدَ مُسَاوَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ قَصْدَ حَطِّهِ ، وَالْمَطْلُوبُ نَفْسُهُ ، وَالْمَآلُ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ بِالْقِتَالِ أَوَّلًا ، وَعَلِمَ أَنْ سَتَبْلُغُ إلَى الْإِثْخَانِ وَالْغَلَبَةِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الْغَلَبَةِ بِشَدِّ الْوَثَاقِ ، فَيَتَخَيَّرُ حِينَئِذٍ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّمَا لَهُمْ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَهُ مَنْسُوخَةٌ .
وَالصَّحِيحُ إحْكَامُهَا ؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا مِنْ الْمُعَارَضَةِ ، وَتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ ، وَقَوْلُهُ : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ التَّشْرِيدَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَالْقَتْلِ ، فَإِنَّ طَوْقَ الْمَنِّ يُثْقِلُ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ ، وَيَذْهَبُ بِنَفَاسَةِ نُفُوسِهِمْ ، وَالْفِدَاءُ يُجْحِفُ بِأَمْوَالِهِمْ ؛ { وَلَمْ يَزَلْ الْعَبَّاسُ تَحْتَ ثِقَلِ فِدَاءِ بَدْرٍ حَتَّى أَدَّى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فَقَدْ قَالَ : وَاحْصُرُوهُمْ
؛ فَأَمَرَ بِالْأَخْذِ كَمَا أَمَرَ بِالْقَتْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَمَرَ بِالْأَخْذِ لِلْقَتْلِ .
قُلْنَا : أَوْ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ .
وَقَدْ عَضَّدَتْ السُّنَّةُ ذَلِكَ كُلَّهُ ؛ فَرَوَى مُسْلِمٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ جَارِيَةً فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ هَبَطَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَوْمٌ ، فَأَخَذَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ } ، وَقَدْ مَنَّ عَلَى سِبِّي هَوَازِنَ ، وَقَتَلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ صَبْرًا فَقَالَتْ أُخْتُهُ قُتَيْلَةُ تَرِثِيهِ : يَا رَاكِبًا إنَّ الْأَثِيلَ مَظِنَّةٌ مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ أَبْلِغْ بِهَا مَيِّتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً مَا إنْ تَزَالُ بِهَا النَّجَائِبُ تَخْفِقُ مِنِّي إلَيْهِ وَعَبْرَةً مَسْفُوحَةً جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ فَلْيَسْمَعْنِ النَّضْرُ إنْ نَادَيْته إنْ كَانَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ أَوْ يَنْطِقُ أَمُحَمَّدٌ وَلَأَنْتَ ضِنْءُ كَرِيمَةٍ فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ مَا كَانَ ضَرَّك لَوْ مَنَنْت وَرُبَّمَا مِنْ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ لَوْ كُنْت قَابِلَ فِدْيَةٍ لَفَدَيْتُهُ بِأَعَزِّ مَا يُغْلَى بِهِ مَنْ يُنْفِقُ وَالنَّصْرُ أَقْرَبُ مِنْ أَسَرْت قَرَابَةً وَأَحَقُّهُمْ لَوْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتِقُ ظَلَّتْ رِمَاحُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ صَبْرًا يُقَادُ إلَى الْمَنِيَّةِ مَتْعَبًا رَسْفَ الْمُقَيِّدِ وَهُوَ عَانٍ مُوثَقُ فَالنَّظَرُ إلَى الْإِمَامِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } فَمَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْمٍ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ آثَامَهَا يُرِيدُونَ بِأَنْ يُسْلِمَ الْكُلُّ ، فَلَا يَبْقَى كَافِرٌ ؛ وَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْجِهَادُ ؛ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ الْأَجْرُ
وَالْمَغْنَمُ } .
وَمَنْ ذَكَرَ نُزُولَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ إذَا نَزَلَ لَا يَبْقَى كَافِرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا جِزْيَةٌ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ جِزْيَةٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ فِي تَتْمِيمِ الْقَوْلِ : قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ : فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ : الْمَعْنَى فَضَرْبُ الرِّقَابِ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ، فَإِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ .
وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الْأَسِيرَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ دَفَعَ أَسِيرًا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِيَقْتُلَهُ ، فَأَبَى وَقَالَ : لَيْسَ بِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ ، وَقَرَأَ : { حَتَّى إذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } .
قُلْنَا : قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَعَلَهُ ، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِ اللَّهِ لِلْمَنِّ وَالْفِدَاءِ مَنْعٌ مِنْ غَيْرِهِ ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي الزِّنَا حُكْمَ ، الْجَلْدِ ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمَ الرَّجْمِ ؛ وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ يَدِ الْحَجَّاجِ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَالَ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ افْتَتَحَ نَافِلَةً مِنْ صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ ، ثُمَّ أَرَادَ تَرْكَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إبْطَالٌ لِعَمَلِهِ الَّذِي انْعَقَدَ لَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ تَطَوُّعٌ فَإِلْزَامُهُ إيَّاهُ يُخْرِجُهُ عَنْ الطَّوَاعِيَةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ ، فَإِذَا شُرِّعَ لَزِمَهُ كَالشُّرُوعِ فِي الْمُعَامَلَاتِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَا تَكُونُ عِبَادَةٌ بِبَعْضِ رَكْعَةٍ وَلَا بَعْضِ يَوْمٍ فِي صَوْمٍ ؛ فَإِذَا قَطَعَ فِي بَعْضِ الرَّكْعَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ إنْ قَالَ : إنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ نَاقَضَ الْإِجْمَاعَ ، وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَدْ نَقَضَ الْإِلْزَامَ ، وَذَلِكَ مُسْتَقْصَى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوَا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } .
قَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الصُّلْحِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى [ هَاهُنَا ] عَنْهُ مَعَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِلْكُفَّارِ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ ، وَإِنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ لَهُ وَجْهٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ ، وَيُفِيدُ فَائِدَةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ ، وَلَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُهُ .
سُورَةُ الْفَتْحِ [ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ ] الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ } قِيلَ : هُمْ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَهُمْ خَمْسُ قَبَائِلَ : جُهَيْنَةَ ، وَمُزَيْنَةَ ، وَأَشْجَعَ ، وَغَفَّارَ ، وَأَسْلَمَ : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَعْيِينِهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ .
الثَّانِي أَنَّهُمْ بَنُو حَنِيفَةَ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ .
الثَّالِثُ أَنَّهُمْ هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ ؛ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْيَمَامَةِ لَا بِفَارِسَ وَلَا بِالرُّومِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لِأَنَّ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ حَتَّى يُسْلِمَ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ جِزْيَةٍ هُمْ الْعَرَبُ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَالْمُرْتَدُّونَ .
فَأَمَّا فَارِسُ وَالرُّومُ فَلَا يُقَاتَلُونَ حَتَّى يُسْلِمُوا ؛ بَلْ إنْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ قُبِلَتْ مِنْهُمْ ، وَجَاءَتْ الْآيَةُ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِخْبَارًا بِالْغَيْبِ الْآتِي ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَدَلَّتْ عَلَى إمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لِأَنَّ الدَّاعِي لَهُمْ كَانَ أَبَا بَكْرٍ فِي قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ اسْتَخْلَفَ عُمَرُ ، وَعُمَرُ كَانَ الدَّاعِي لَهُمْ إلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ ، وَخَرَجَ عَلِيُّ تَحْتِ لِوَائِهِ [ وَأَخَذَ سَهْمَهُ مِنْ غَنِيمَتِهِ وَاسْتَوْلَدَ حَنِيفَةُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا ] ، وَلَوْ كَانَتْ إمَامَةٌ بَاطِلَةً وَغَنِيمَةٌ حَرَامًا لَمَا جَازَ عِنْدَهُمْ وَطْءٌ عَلِيٍّ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ مَعْصُومٌ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعْذِبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النُّورِ بَيَانُهَا ، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الْجِهَادُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } يَعْنِي قُرَيْشًا بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ ، وَالْقِصَّةَ مَخْصُوصَةٌ بِهِمْ ؛ فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهُمْ مَعَهُمْ ؛ مَنَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَمَنَعُوا الْهَدْيَ وَحَبَسُوهُ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ؛ وَهَذَا كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ ، وَلَكِنَّهُمْ حَمَلَتْهُمْ الْأَنَفَةُ ، وَدَعَتْهُمْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى أَنْ يَفْعَلُوا مَا لَا يَعْتَقِدُونَ دِينًا ، فَوَبَّخَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَدْخَلَ الْأُنْسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِهِ وَوَعْدِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا مَنْحَرُهُ .
الثَّانِي : الْحَرَمُ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَكَانَ الْهَدْيُ سَبْعِينَ بَدَنَةً ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بِفَضْلِهِ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَحِلًّا لِلْعُذْرِ ، وَنَحَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِيهِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَبُولِهِ وَإِبْقَائِهِ سُنَّةً بَعْدَهُ لِمَنْ حُبِسَ عَنْ الْبَيْتِ وَصُدَّ كَمَا صُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ } بِمَكَّةَ ، فَخِيفَ وَطْؤُكُمْ لَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَأَدْخَلْنَاكُمْ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً ، وَمَلَكْنَاكُمْ الْبَلَدَ قَسْرًا ، وَلَكِنَّا صُنَّا مَنْ كَانَ [ فِيهَا ] يَكْتُمُ إيمَانَهُ خَوْفًا ، وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا فَعَلَ بَعْضَهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَجْزٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ حِكْمَةٍ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } تَفْصِيلٌ لِلصَّحَابَةِ ، وَإِخْبَارٌ عَنْ صِفَتِهِمْ الْكَرِيمَةِ مِنْ الْعِفَّةِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَالْعِصْمَةِ عَنْ التَّعَدِّي ، حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ أَصَابُوا مِنْ أُولَئِكَ أَحَدًا لَكَانَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وَهَذَا كَمَا وُصِفَتْ النَّمْلَةُ عَنْ جُنْدِ سُلَيْمَانَ فِي قَوْلِهَا : { لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَوْ تَزَيَّلُوا } يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا .
تَنْبِيهٌ عَلَى مُرَاعَاةِ الْكَافِرِ فِي حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ إذَا لَمْ تُمْكِنْ إذَايَةُ الْكَافِرِ إلَّا بِإِذَايَةِ الْمُؤْمِنِ .
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ : قُلْت لِابْنِ الْقَاسِمِ : أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ قَوْمًا فِي الْمُشْرِكِينَ فِي حِصْنٍ مِنْ حُصُونِهِمْ حَصَرَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ ، وَفِيهِمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُسَارَى فِي أَيْدِيهِمْ ؛ أَيُحْرَقُ هَذَا الْحِصْنُ أَمْ لَا يُحْرَقُ ؟ قَالَ : سَمِعْت مَالِكًا وَسَأَلَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [ يَرْمُونَ ] فِي مَرَاكِبِهِمْ أَخَذُوا أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ [ وَأَدْرَكَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فَأَرَادُوا أَنْ يُحَرِّقُوهُمْ وَمَرَاكِبَهُمْ بِالنَّارِ ] وَمَعَهُمْ الْأُسَارَى فِي مَرَاكِبِهِمْ ، وَقَالَ : فَقَالَ مَالِكٌ : لَا أَرَى ذَلِكَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأَهْلِ مَكَّةَ : { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ مَعْنَاهُ لَوْ تَزَيَّلُوا عَنْ بُطُونِ النِّسَاءِ وَأَصْلَابِ الرِّجَالِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَهُوَ فِي صُلْبِ الرَّجُلِ لَا يُوطَأُ وَلَا تُصِيبُ مِنْهُ مَعَرَّةٌ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ صَرَّحَ فَقَالَ : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ } وَذَلِكَ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ وَصُلْبِ الرَّجُلِ ؛ وَإِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مِثْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ ، وَعَيَّاشٍ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَأَبِي جُنْدُلِ بْنِ سُهَيْلٍ ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ .
وَقَدْ حَاصَرْنَا مَدِينَةً لِلرُّومِ ، فَحَبَسَ عَنْهُمْ الْمَاءَ ، فَكَانُوا يُنْزِلُونَ الْأُسَارَى يَسْتَقُونَ لَهُمْ الْمَاءَ ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَمْيِهِمْ بِالنَّبْلِ ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ الْمَاءُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِنَا .
وَقَدْ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ
الرَّمْيَ فِي حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَأَطْفَالُهُمْ ، وَلَوْ تَتَرَّسَ كَافِرٌ بِوَلَدِ مُسْلِمٍ رُمِيَ الْمُشْرِكُ وَإِنْ أُصِيبَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا دِيَةَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَلَا دِيَةَ لَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِنَا .
وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ فَإِنَّ التَّوَصُّلَ إلَى الْمُبَاحِ بِالْمَحْظُورِ لَا يَجُوزُ ، وَلَا سِيَّمَا بِرُوحِ الْمُسْلِمِ ، فَلَا قَوْلَ إلَّا مَا قَالَهُ مَالِكٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَة الرَّابِعَة قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ وَيَطُوفُ ، فَأَنْذَرَ أَصَحَابَةَ بِالْعُمْرَةِ ، وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَمِائَتَيْ قُرَشِيٍّ ، حَتَّى أَتَى أَصْحَابُهُ ، وَبَلَغَ الْحُدَيْبِيَةَ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَصَالَحُوهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِسِلَاحِ الرَّاكِبِ بِالسَّيْفِ وَالْفَرَسِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ وَهُوَ السَّيْفُ فِي قِرَابِهِ ، فَسُمِّيَتْ عُمْرَةٌ الْقَضِيَّةِ ، لِمَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَضِيَّةِ ، وَسُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاهَا مِنْ قَابِلٍ .
وَسُمِّيَتْ مَرَّةً عُمْرَةَ الْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } أَيْ اقْتَصَصْتُمْ مِنْهُمْ كَمَا صَدُّوكُمْ : فَارْتَابَ الْمُنَافِقُونَ ، وَدَخَلَ الْهَمُّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الرُّفَعَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَ لَهُ : أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ دَاخِلٌ الْبَيْتَ فَمُطَّوِّفٌ بِهِ ، قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ الْعَامَ ، وَإِنَّهُ آتِيه فَمَطُوفٌ بِهِ .
وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ ، وَرَاجَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُرَاجَعَةِ أَبِي بَكْرٍ .
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا يَعْنِي مِنْ الْخَيْرِ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://moosam66.yoo7.com
 
كتاب أحكام القرآن ج20
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كتاب أحكام القرآن ج18
» كتاب أحكام القرآن ج18
» كتاب أحكام القرآن ج17
» كتاب أحكام القرآن ج23
» كتاب أحكام القرآن ج17

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مصر اسلامية  :: سلة المحزوفات-
انتقل الى: