التناظر والتفاضل في القرآن بالكلمة
قال الله تعالى في كتابه العزيز : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذريات:49) .
وقد جاءت هذه الآية شاملة (وَمِنْ كُلِّ شَيْء) ، وعليه فجميع الأشياء ستمر عبر هذا القانون . وقد تم الخلق بهذه الطريقة حتى يعتبر الإنسان ويتفكر ويتذكر أن وراء هذا الخلق خالقا واحدا حكيما .
وزوجا أي شيء هما ركنان متناظران تماما بالنسبة لماهية هذا الشيء ، ولحقيقة وجوده ، ويبعدان مسافة متساوية عن مركز وجوهر هذا الشيء .
ولو أخذنا أي شيء ، ونظرنا إلى زوجية الاثنين ، مسلطين الضوء إلى مركز هذا الشيء هادفين من ذلك النظر إلى جوهره وحقيقته ، محاولين الإدراك والتبصّـر في روح هذا الشيء . في هذه النظرة سنجد أن هذين الزوجين يقعان على مسافة متساوية من مركز هذا الشيء . فهما زوجان متناظران تماما ، وبالتالي فإن الصورة المرسومة من خلال هذه النظرة يجب أن تتكون من ركنين متناظرين تماما، كل ركن هو صورة زوج من زوجي هذا الشيء .
أما لو نظرنا إلى هذا الشيء من زاوية ما ، مسلطين عليه الضوء من هذه الزاوية ، هادفين من ذلك النظر إلى صفة أو خاصة منه ، فلا بد أن تكون الصورة المرسومة لزوجي هذا الشيء ، يتفاضل ركناها أحدهما عن الىخر درجة ، ويعود ذلك إلى الزاوية التي ننظر من خلالها إلى زوجي هذا الشيء .
فمثلا لو أخذنا الإنسان ، إنه مخلوق من مخلوقات هذا الكون ، وبالتالي سيمر عبر قانون الزوجية ، وقد خُلق على زوجين رجل وامرأة . ولو نظرنا إلى استمرارية الحياة ، والهدف الذي وجد الإنسان من أجله ، وإلى ما هو أساسي في حياة الإنسان . ضمن هذه الرؤية نجدهما زوجين متناظرين تماما ، ويبعدان مسافة واحدة عن مركز هذه المسألة ، وبالتالي ستكون الصورة المنقولة لهذه المسألة ، مكونة من ركنين متناظرين تماما .
أما لو نظرنا إليهما من زاوية ما ، مثلا من زاوية القوة الجسدية ، فإنّنا نرى أن الرجل يتفاضل درجة عن المرأة ، وبالتالي ستكون الصورة التي نراها من خلال هذه الزاوية ، هي ركنان يتفاضل أحدهما عن الآخر درجة ، هي فرق الزاوية التي يسقط من خلالها الضوء ، ليصور ركني هذه المسألة . ولو نظرنا إليهما من زاوية العاطفة وتربية الأطفال ، لوجدنا أن التفاضل درجة سيكون لصالح المرأة ، بين ركني هذه المسألة ، وأن هذا التفاضل لا بد أن ينعكس في الصورة التي نراها من خلال هذه الزاوية ، فبعد وقرب زوجي الشيء عن مركز المسألة ، وعلاقتهما ببعضهما في الصورة المرسومة ، يتبع للزاوية التي يسلط منها الضوء عند رسم هذه الصورة .
والقرآن الكريم - كما قلنا - تناول المسائل من بدايتها إلى نهايتها ، وجاء بها من أساسها . فهو يصور لنا عناصر هذا الكون ، ونهايات القوانين التي تحكم هذه العناصر ، يصور لنا مصير الإنسان ومصير الوجود في هذا الكون ، يصور لنا الماضي والحاضر والمستقبل ... ألخ . وواحدات التصوير الأولى هي الحروف ، وواحدات الوصف والتسمية الأولى هي الكلمات .
وحتى تجتمع صفات الكمال المطلقة في الصورة ، التي ترسم أي مسألة من المسائل ، لا بد ان يملك المصـوّر خاصتين أساسيتين :
1 - العلم المطلق بماهية هذا الشيء .
2 - صفات الكمال المطلقة في تصوير هذا الشيء الذي يعلمه علما مطلقا .
وبما أن الأشياء خلقت في هذا الكون على شكل أزواج ، فلا بد أن تكون صور المسائل التي يسلط عليها الضوء في مركزها ، هي صور مكونة من أركان متناظرة تماما ، وأن تكون صور المسائل التي يسلط عليها الضوء بتفاضل درجة واحدة ، هي صور مكونة من أركان متفاضلة درجة واحدة ، لأن الخالق هو المصور ، وهو الوحيد الذي يملك الخاصتين السابقتين .
إن جمال وعظمة التصوير الإلهي ، تتجلّى في تصوير الحدث عبر كلمات تصور ماهيّة هذا الحدث ، بشكل مطابق تماما لحقيقة وجوده في هذا الكون . وإن كتابتنا وتصويرنا نحن كبشر لأي حدث ، لا يتعدّى الجسد الماديّ لهذا الحدث ، ولا ينفذ إلى روحه التي تحرك هذا الجسد . وهذا طبيعي لاننا كبشر لا نعلم من حقائق الأشياء إلا الظواهر الماديّة والحسيّة التي تقع تحت حواسّـنا ، أما التصوير الإلهي لأي حدث ، يكون مصورا لهذا الحدث بجسده وروحه ، لتكون الصورة عبارة عن كلمات ، تنبض هي وحروفها بروح هذا الحدث . وبالتالي تبقى هذه الكلمات حية ، تعيش مع كل جيل يأتي ، لتعطي لهذا الجيل مفهوما جديدا ، يتناسب ومعطيات الحضارة التي يعيش فيها هذا الجيل ، دون أن تناقض مفاهيم الأجيال السابقة واللاحقة لهذا الجيل .
إن كلمات القرآن الكريم ، تصف وتصور المسائل بشكل مطابق تماما للواقع ، الذي توجد فيه هذه المسائل . لذلك فالمسألة المكونة من ركنين متناظرين تماما ، تصفها كلمات الله سبحانه وتعالى ، بواحدات وصف وتسمية ، متناظرة تماما بالنسبة لركني هذه المسألة ، وبحيث يكون نصيب كل ركن من ركنيها ، مساويا تماما لنصيب الركن الآخر من هذه الوحدات ، أما المسألة المكونة من ركنين متناظرين ،ولكن بتفاضل درجة ، فإن كلمات القرآن الكريم ، تصورها بشكل مطابق تماما لذلك . فالصورة الناتجة عن هذا التصوير ، نراها عبارة عن ركنين يتفاضل أحدهما درجة عن الآخر ، بالنسبة لوحدات الوصف والتسمية وهي الكلمات .
إن المعجزة تكمن أولا في روح هذا التناظر ، فالأركان المتناظرة هي وصف مطلق للحقائق المتناظرة ، وهذا يعود للعلم المطلق الذي يملكه القائل سبحانه وتعالى بماهية هذه المسائل . وبعد ذلك نرى أن المعجزة تكمن بانعكاس هذا التناظر وبشكل مطلق في مجموع واحدات الوصف والتسمية المقابلة .
وللبرهنة على هذا البعد من أبعاد هذه النظرية ، سنتناول - بالإضافة إلى المسائل ذات الأركان المتناضرة تماما - المسائل ذات الأركان المتفاضلة درجة واحدة . وهذا لا يعني أنه لا يوجد تفاضل بأكثر من درجة واحدة ، ولا يعني أنه لا يوجد ارتباط بين العبارات القرآنية إلا وفق الأبعاد المطروحة في هذه النظرية . فالهدف من اختيار فكرة التناظر ، هو البرهنة على انعكاس ارتباط العبارات القرآنية مع بعضها ، في مجموع واحدات الوصف والتسمية المقابلة التي تكون هذه العبارات .
لقد اعتمدت في البرهان على هذا البعد من أبعاد هذه النظرية - سواء بالكلمات أم بالحروف - على إظهار الفارق بين المسائل ذات الأركان المتفاضلة ، وكيف أن الارتباط بين كل ركنين من كل حالة ، ينعكس في مجموع الواحدات المكونة لهذين الركنين ، وبشكل يطابق مطابقة مطلقة جوهر الارتباط بين ركني كل مسألة .
وحتى لا تتشتت روح هذا البعد من أبعاد هذه النظرية ، وبما أن التفاضل درجة واحدة هو أبسط درجات التفاضل ، فقد تم اختيار المسائل ذات الأركان المتفاضلة بدرجة واحدة (انظر الجدول الثالث) ، بالإضافة للمسائل ذات الأركان المتناضرة تماما (انظر الجدول الأول)، كنموذج للبرهنة على هذا البعد ، ولإظهار انعكاس ارتباط الجمل القرآنية مع بعضها ، في مجموع الواحدات الدالة على هذه الجمل .
إن درجة التفاضل تكون لصالح الركن الأقرب إلى الزاوية التي يسقط منها الضوء لرسم ركني المسألة ، وهذا ما يحدده القرآن الكريم ، من خلال الصورة التي ترسمها هذه المسألة . فلربما يكون الركن صاحب الدرجة الأصغر في مسائل أخرى ، أو يكون متناظرا تماما في مسائل أخرى .
لننظر في هذه المسألة وهي مسألة استئذان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، من أجل عدم الخروج للجهاد في سبيل الله . إن المسألة مكونة من ركنين متناظرين تماما . هناك جماعة تؤمن بالله واليوم الآخر ، لذلك لا يمكن أن يستأذنوا ويتهربوا من الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى . وهناك جماعة لا تؤمن بالله واليوم الآخر ، فهم يستأذنون من أجل عدم الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل . وهذان الموقفان متضادان تماما ، ومتناظران تماما بالنسبة لهذه المسألة ، لذلك نرى أن كلمات الله سبحانه وتعالى ، تصف هذه المسألة ، بحيث تكون الصورة مكونة من ركنين متناظرين تماما .
(لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (التوبة:44) (عدد الحروف 14) .
(إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (التوبة:45) (عدد الحروف 14 أيضا) .
إن كل آية كريمة هي أحد ركني هذه المسألة ، لذلك نجد أن نصيب كل منهما مساويا لنصيب الآخر ، من واحدات الوصف والتسمية وهي الكلمات .
وانظر إلى ركني هذه المسألة :
(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (فصلت: من الآية34) (عدد الحروف 9) .
( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: من الآية34) (عدد الحروف 8 فقط) .
ركنان متناظران في مسألة واحدة ، ولكننا نرى أن الركن الأول ، يصف الجانب العام منها ، ونرى أن الركن الثاني يصف جانبا خاصا منها . وهذا التفاضل في الزاوية التي يسقط من خلالها الضوء ، ليصف ركني هذه المسألة ، نجده ينعكس في واحدات الوصف والتسمية وهي الكلمات .
أدناه اوردنا بعض الأمثلة اليسيرة لما ورد ذكره أعلاه ، ونترك لكم التمعن في عظمة القرآن المحكم ، حيث ما أوردناه هو كأمثلة وليس للحصر.
أ